من أجل الوصول إلى اليابان
أمندسون
الرحيل عن مافرلي
حفرة الحصى
الملاذ
الكبرياء
كوري
القطار
على مرأى من البحيرة
دوللي
نامعلوم صفحہ
خاتمة
العين
الليل
الأصوات
حياتي العزيزة
من أجل الوصول إلى اليابان
أمندسون
الرحيل عن مافرلي
حفرة الحصى
الملاذ
نامعلوم صفحہ
الكبرياء
كوري
القطار
على مرأى من البحيرة
دوللي
خاتمة
العين
الليل
الأصوات
حياتي العزيزة
نامعلوم صفحہ
حياتي العزيزة
حياتي العزيزة
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
نهلة الدربي
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
من أجل الوصول إلى اليابان
بمجرد أن وضع بيتر حقيبتها على متن القطار، بدا حريصا على أن يبتعد ليفسح الطريق فقط، لا أن يغادر، وأوضح لها أنه فقط يشعر بالضيق لأن القطار كان سيبدأ في التحرك. وبالخارج وقف على رصيف المحطة وهو يتطلع إلى نافذتهم وراح يلوح ويبتسم. كانت ابتسامته لكاتي ابتسامة عريضة مشرقة، دون أدني شك في العالم، كما لو كان يعتقد أنها ستظل شيئا رائعا عنده، وسيظل هو كذلك عندها، للأبد. بدت ابتسامته لزوجته مليئة بالتفاؤل والثقة، وتنم عن شيء من العزم والإصرار؛ وهو شيء لا يمكن التعبير عنه بسهولة من خلال الكلمات، وحقا قد لا يمكن التعبير عنه على الإطلاق. فلو حدث أن ذكرت جريتا شيئا كهذا لقال لها: لا تكوني سخيفة. وكانت ستوافقه في هذا، معتقدة أنه ليس من الطبيعي بالنسبة إلى أناس كان يرى بعضهم بعضا يوميا وباستمرار أن يكون عليهم تقديم تفسيرات من أي نوع لما يجول بداخلهم.
نامعلوم صفحہ
عندما كان بيتر لا يزال رضيعا، اصطحبته أمه ومرت به عبر مجموعة من الجبال التي دائما ما تنسى جريتا اسمها، وذلك لكي تهرب به من تشيكوسلوفاكيا التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي للوصول إلى أوروبا الغربية. كان هناك بالطبع كثيرون غيرها يفعلون الشيء نفسه، وقد عزم والد بيتر على مصاحبتهما، لكن تم إرساله إلى إحدى المصحات العلاجية قبل رحيلهم السري مباشرة. وكان من المفترض أن يلحق بهم حالما يستطيع، بيد أنه مات.
قالت جريتا عندما أخبرها بيتر بذلك أول مرة: «لقد قرأت قصصا كثيرة مثل هذه.» وراحت توضح له كيف أنهم في تلك القصص كانوا يغطون الرضيع بشدة أو يقومون بخنقه إذا ما شرع في البكاء؛ خشية أن تمثل الضوضاء التي يحدثها تهديدا للمجموعة الهاربة بأسرها.
قال بيتر إنه لم يسمع بمثل هذه القصص من قبل، ولا يعرف ماذا كانت أمه ستفعل في مثل هذه الظروف.
ما فعلته هو أنها ذهبت إلى كولومبيا البريطانية؛ حيث أتقنت اللغة الإنجليزية وحصلت على وظيفة لتدريس المادة التي كان يطلق عليها «أساليب الأعمال التجارية» لطلاب المدرسة الثانوية. وقد ربت بيتر بمفردها، وأرسلته إلى الجامعة وقد أصبح الآن مهندسا. كانت عادة ما تجلس في الغرفة الأمامية عندما كانت تأتي إلى شقتهما، وإلى منزلهما فيما بعد، ولا تطأ المطبخ مطلقا، اللهم إلا إذا دعتها جريتا. تلك كانت طريقتها، فقد اعتادت ألا تبدي ملاحظاتها بصورة مبالغ فيها؛ فلا تعلق ولا تتطفل ولا تحاول اقتراح أي شيء بالرغم من أنها كانت تتفوق على زوجة ابنها في كل الفنون والمهارات المنزلية.
لقد تخلصت أيضا من الشقة التي ربت فيها بيتر، وانتقلت إلى واحدة أخرى أصغر لم تكن تحتوي على غرفة نوم منفصلة، بل مجرد غرفة تسع أريكة قابلة للطي؛ لذا لا يستطيع بيتر الذهاب إلى بيت أمه. هكذا كانت تعمد جريتا إلى إغاظتها، وكانت تجفل من ذلك؛ فالمزاح كان يؤلمها بحق. ربما كانت مشكلة اختلاف اللغة هي السبب في ذلك، لكن الإنجليزية أصبحت هي لغتها المعتادة الآن، وهي بالفعل اللغة الوحيدة التي كان يعرفها بيتر. لقد تعلم فن «أساليب الأعمال التجارية» عندما كانت جريتا تدرس ملحمة «الفردوس المفقود»، وليس على يد أمه. كانت تتجنب أي شيء مفيد وكأنه الطاعون، أما هو فكان يفعل العكس.
ومن خلال زجاج النافذة الذي يفصل بينهما - وحماسة كاتي التي لم تفتر وهي تلوح مودعة - أخذا يتبادلان نظرات ود هزلية أو بالأحرى غريبة. كانت تفكر بمدى جاذبيته وجمال مظهره، وكيف بدا عليه أنه لا يدرك تماما تلك الحقيقة؛ فقد كان يقص شعره حتى يجعله قصيرا مثل البحارة، كما هي الصيحة في ذلك الوقت، وخاصة إن كان المرء يعمل في مهنة مثل الهندسة، أما بشرته الفاتحة فلم تكن تتورد بالحمرة كبشرتها، أو تصيبها البقع إثر التعرض للشمس، لكنها كانت تكتسب بعض السمرة، أيا كان الموسم.
أما آراؤه، فكانت مشابهة لبشرته؛ فعندما كانا يذهبان لمشاهدة أحد الأفلام لم يكن يرغب مطلقا في التحدث عنه فيما بعد؛ فقد كان يكتفي بقول إنه جيد، أو جيد جدا، أو لا بأس به؛ فهو لا يرى طائلا من الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك في عرض آرائه. كان يشاهد التليفزيون، ويقرأ أي كتاب بالطريقة ذاتها تقريبا؛ كان لديه من الصبر ما يكفي لأن يتعامل مع مثل هذه الأشياء؛ فالأشخاص الذين أنجزوا هذه الأشياء في الغالب قد بذلوا قصارى جهدهم من أجل إنجازها. اعتادت جريتا أن تجادله وتسأله باندفاع إن كان سيقول نفس الرأي بشأن أحد الجسور؛ فالأشخاص الذين شيدوه قد بذلوا قصارى جهدهم، لكن جهدهم لم يكن كافيا، فسقط منهارا.
وبدلا من أن يناقشها، كان يكتفي بالضحك.
ويقول: «إنه ليس نفس الشيء.» «أحقا هو ليس كذلك؟» «نعم.»
لا بد أن جريتا قد أدركت أن موقفه هذا - أي عدم التدخل وتقبل الآراء الأخرى - بمنزلة نعمة بالنسبة إليها؛ لأنها كانت شاعرة، وكانت قصائدها تحوي أشياء ليست مبهجة على الإطلاق أو ليس من السهل إيضاحها. (كانت لا تزال والدة بيتر والأشخاص الذين كانوا يعملون معه - من الذين يعرفون ذلك - يلقبونها بالشاعرة. لقد عودت بيتر على ألا ينعتها بهذا، وإلا فما الفائدة إذن من التعويد؟ أما أقاربها والأشخاص الذين تعرفهم الآن وهي تمارس دورها كزوجة وأم، فليسوا بحاجة إلى التعويد على ذلك؛ لأنهم لا يعرفون شيئا عن تلك السمة.)
نامعلوم صفحہ
سيكون من الصعب أن توضح، فيما بعد في حياتها، ما الشيء الجيد والمقبول في ذلك الوقت وما هو غير ذلك. قد تقول امرأة: حسنا، لم تكن الحركة النسوية بالشيء الجيد، لكن سيكون عليها فيما بعد أن توضح أن الحركة النسوية لم تكن حتى كلمة كان الناس يستخدمونها حينها، ثم تضيف أنه كان من الممكن أن ينظر إلى أي فكرة جادة، فضلا عن بعض الطموح، أو ينظر حتى إلى قراءة كتاب مفيد على أنها شيء باعث على الريبة، وقد يكون له علاقة بإصابة طفلك بالالتهاب الرئوي، وإلى أن أي تعليق سياسي في أي من حفلات العمل قد يعرقل ترقي زوجك في العمل. وقد لا يهم حينها أي حزب قمت بانتقاده؛ كل ما في الأمر أن التعليق انطلق من فم امرأة.
سيضحك الناس ويقولون إنها تمزح، وستجيب هي حينها: إن الأمر هكذا، لكن ليس إلى هذا الحد. وحينها ستقول جريتا لها إن نظم الشعر في ذلك الوقت يكون أكثر أمانا بعض الشيء بالنسبة إلى المرأة مقارنة بالرجل؛ ومن هنا جاءت كلمة شاعرة وأصبحت متداولة، تماما كحلوى غزل البنات. قالت إن بيتر لم يكن لينظر للأمر هكذا، حيث إنه قد نشأ في أوروبا. ولكنه كان سيتفهم جيدا كيف من المفترض أن ينظر الرجال الذين يعمل معهم إلى مثل تلك الأفكار. •••
هذا الصيف كان سيمضي بيتر شهرا أو ربما أكثر في تنفيذ أحد المشروعات بقرية لوند، التي تبعد كثيرا بقدر توغلك شمالا في البر الرئيسي. ولم يكن ثمة مكان لإقامة جريتا وكاتي.
لكن جريتا كانت على اتصال بصديقة كانت تعمل معها في مكتبة فانكوفر، وقد تزوجت الآن وباتت تعيش في تورونتو. كانت تلك الصديقة ستمضي شهرا في أوروبا هذا الصيف بصحبة زوجها، الذي يعمل مدرسا، وقد كتبت لجريتا تطلب منها أن تسدي لها معروفا - فقد كانت دمثة الخلق جدا - بأن تقيم في منزلها في تورونتو لجزء من تلك الفترة حتى لا يظل مغلقا، وقد ردت جريتا تخبرها بشأن عمل بيتر وأنها تقبل العرض المقدم هي وكاتي.
ولهذا السبب هم الآن يلوحون بعضهم لبعض عبر رصيف المحطة والقطار. •••
كانت تصدر في ذلك الوقت في تورونتو بصورة غير منتظمة إحدى المجلات التي تحمل اسم «ذي إكو أنسارز»، وكانت جريتا قد عثرت عليها في المكتبة، فبعثت إليها ببعض من قصائدها، وقد نشرت لها المجلة قصيدتين، فكانت النتيجة أن تمت دعوتها لحضور إحدى الحفلات بصحبة مجموعة من الكتاب لمقابلة رئيس التحرير الذي قدم في زيارة لفانكوفر في الخريف الماضي. وكانت الحفلة قد أقيمت في منزل أحد الكتاب الذي كان اسمه مألوفا لها، فيما يبدو، طوال حياتها. أقيمت الحفلة في وقت متأخر من فترة ما بعد الظهيرة عندما كان بيتر لا يزال في عمله؛ لذا استعانت بإحدى جليسات الأطفال، واستقلت الحافلة المتجهة لنورث فانكوفر، التي عبرت جسر ليونز جيت ومرت بمتنزه ستانلي بارك. كان عليها أن تنتظر أمام خليج هدسون من أجل رحلة طويلة للحرم الجامعي حيث يقطن الكاتب. عندما هبطت عند آخر محطة للحافلة، عثرت على الشارع المطلوب وسارت عبره وهي تنظر إلى أرقام المنازل. كانت ترتدي حذاء ذا كعب عال؛ مما أبطأ من حركة سيرها كثيرا. وكذلك فعل ثوبها الأسود الشديد الأناقة، المغلق بسوستة من الظهر، الذي كان شفافا عند منطقة الوسط، وضيقا بشدة عند منطقة الأرداف. حدثت نفسها قائلة إنه يجعل شكلها يبدو سخيفا بعض الشيء؛ حيث إنها تتعثر قليلا في خطواتها عبر الطرقات المتعرجة التي لا تحوي أي أرصفة. وكانت هي تقريبا الشخص الوحيد الذي يمشي في فترة ما بعد الظهيرة التي أوشكت على الانقضاء. رأت بيوتا عصرية ذات نوافذ عريضة كما هو الحال في أي ضاحية متحضرة، ولم تكن على الإطلاق بالضاحية التي توقعت أن تراها. وراحت تتساءل إن كانت أخطأت في الشارع المطلوب، وقد سعدت بتلك الفكرة؛ فبمقدورها العودة مرة أخرى لمحطة انتظار الحافلات حيث ستجد مقعدا، وعندئذ يمكنها خلع حذائها والحصول على بعض الراحة قبل بدء رحلة عودتها الطويلة التي ستقطعها وحيدة إلى المنزل.
لكن عندما شاهدت الكثير من السيارات المصطفة، ووقع بصرها على رقم المنزل، كان قد فات أوان العودة. تسلل صوت الضجيج عبر الباب المغلق، وكان عليها أن تقرع الجرس مرتين.
رحبت بها امرأة بدا واضحا أنها كانت تتوقع قدوم شخص آخر. لم يكن الترحيب هو الكلمة الصحيحة؛ فقد فتحت المرأة الباب، وقالت لها جريتا إن هذا المنزل لا بد أنه المكان الذي أقيمت فيه الحفلة .
قالت المرأة وهي تتكئ على إطار الباب: «كيف يبدو لك الأمر؟» لم تفسح لها المرأة الطريق إلى أن قالت جريتا: «أتسمحين لي بالدخول؟» ثم كانت هناك حركة ما يبدو أنها سببت ألما كبيرا لجريتا. لم تطلب هذه السيدة من جريتا أن تتبعها، لكن جريتا فعلت ذلك على أية حال.
لم يتحدث إليها أو يلاحظ وجودها أي أحد، لكن سرعان ما ظهرت فتاة مراهقة وهي تحمل صينية عليها بعض الأكواب التي بدا أنها تحوي ما يشبه عصير الليمون الوردي. أخذت جريتا كوبا وازدردت ما فيه دفعة واحدة حيث كانت تشعر بعطش شديد، ثم مدت يدها وأخذت كوبا آخر. شكرت الفتاة وحاولت أن تفتح حوارا معها وتحدثها عن الطريق الطويل الذي قطعته مشيا في ذلك الطقس الحار، بيد أن الفتاة لم تعرها اهتماما واستدارت مبتعدة لتؤدي عملها.
نامعلوم صفحہ
راحت جريتا تتجول في المكان والابتسامة تعلو وجهها، ولم ينظر إليها أحد بطريقة تنم عن معرفتها أو السعادة بتواجدها، ولم عساهم يفعلون ذلك؟ كانت تقع عليها عيون الحاضرين للحظات ثم لا يلبثون أن يستأنفوا حواراتهم، ويضحكون. كان الجميع فيما عدا جريتا محاطين بالأصدقاء، منهمكين في تبادل النكات وأشباه الأسرار، وبدا الأمر وكأن كل شخص قد عثر على من يرحب بتواجده، فيما عدا الفتيات المراهقات اللاتي كن يقدمن المشروبات الوردية وهن عابسات متجهمات الوجه.
ومع ذلك، فلم تستسلم؛ لقد أنعشها المشروب وعزمت على أن تتناول كوبا آخر بمجرد أن تمر من أمامها إحدى هؤلاء الفتيات. راحت تبحث عن أي مجموعة تتجاذب الحديث وبها مساحة كافية تستطيع أن تزج بنفسها خلالها لتقف وسط أفرادها. بدا أنها وجدت واحدة عندما ترامت إلى مسامعها أسماء بعض الأفلام؛ كانت أفلاما أوروبية مثل تلك التي بدأت تعرض في فانكوفر في ذلك الوقت. سمعت اسم أحد الأفلام التي كانت قد ذهبت لمشاهدته هي وبيتر، وكان يحمل اسم «الأربعمائة ضربة». قالت بصوت عال وبحماسة شديدة: «أوه، لقد شاهدت ذلك الفيلم.» فالتفت إليها الجميع، وقال أحدهم، والذي يبدو بوضوح أنه المتحدث باسمهم: «أحقا فعلت ؟»
كانت جريتا ثملة بالطبع، فقد تجرعت مزيجا من مشروب الفاكهة الكحولي بيمز نامبر وان وعصير الجريب فروت الوردي دفعة واحدة، ولم تشعر بالاستياء حيال تلك الإهانة كما كان يمكن أن تفعل في الأحوال العادية. لكنها واصلت تجولها في المكان وقد أصابها بعض التشويش، وأصبحت لا تعرف ما يدور حولها، لكن انتابها شعور بأنه يوجد جو من التسامح في المكان، وأنه لا يهم أن تكون صداقات فيه؛ فبإمكانها فقط التجول وإصدار أحكامها على ما حولها.
كان هناك رهط من الناس ذوي الأهمية يقفون عند ممر بالمنزل، وقد لمحت من بينهم مضيف الحفلة؛ وهو الكاتب الذي كانت تألف اسمه ووجهه لفترة طويلة. كان يتحدث بصوت عال، وتخرج كلماته سريعة ومتلاحقة وبدا وكأن هناك خطرا يحدق به، وكان بجواره اثنان من الرجال كانت نظراتهما بمنزلة إهانة موجهة نحوك. وكانت زوجاتهم - في اعتقادها - هن اللاتي يصنعن تلك الدائرة التي كانت تحاول اقتحامها.
لم تكن المرأة التي فتحت لها الباب تقف وسط أي من المجموعتين؛ حيث كانت هي الأخرى كاتبة، ورأتها جريتا تلتفت مستديرة عندما نادى أحدهم اسمها؛ كان اسم أحد المساهمين في المجلة التي نشرت فيها أعمالها هي الأخرى. ومن هذا المنطلق، أليس من الممكن أن تتجه نحوها وتقدم نفسها إليها، كند مساو لها على الرغم من المقابلة الفاترة التي كانت عند الباب؟
لكن المرأة الآن كانت تضع رأسها على كتف الرجل الذي نادى اسمها، وما كانا ليرحبا بأية مقاطعة لحديثهما.
جعلها ذلك تقرر الجلوس، وحيث إنه لم توجد أية مقاعد خالية فقد جلست على الأرض، وراحت تفكر وتتذكر حينما ذهبت بصحبة بيتر لإحدى الحفلات الخاصة بالمهندسين؛ حيث كان الجو العام مبهجا بالرغم من الأحاديث المملة؛ وذلك لأن الجميع كانوا يشعرون بأهميتهم على الأقل في وقت الحفل. أما هنا فلا يأمن أحد من الأحكام التي قد تصدر والانتقادات التي توجه من خلف الظهور، حتى إن كانوا من الأشخاص المعروفين ومشاهير الكتاب. لقد كان جوا غير مريح من المكر والتوتر، بغض النظر عمن تكون.
وها هي قد يئست من أن يجاذبها أحد أطراف الحديث بأي نحو.
شعرت بالراحة عندما اقتنعت بنظريتها بأن الجو العام لا ينم عن البهجة والسرور، ولم تهتم كثيرا بما إذا كان سيتحدث معها أحد أم لا. خلعت حذاءها وانتابها شعور غامر بالراحة. اتكأت بظهرها على حائط ومدت ساقيها في أحد الأماكن التي لا يمر بها كثيرون. لم ترد المخاطرة بسكب مشروبها على البساط؛ لذا انتهت من احتسائه سريعا.
وقف أمامها رجل وقال: «كيف وصلت إلى هنا؟»
نامعلوم صفحہ
أشفقت على قدميه المتعبتين المتثاقلتين، بل إنها كانت تشفق على أي فرد كان مضطرا للوقوف.
قالت إنها من المدعوين لحضور الحفلة. «حسنا، ولكن هل أتيت بسيارتك؟» «لقد جئت سيرا على الأقدام.» لكن ذلك لم يكن كافيا، وخلال فترة قصيرة أخذت تقص عليه بقية القصة. «استقللت إحدى الحافلات، ثم بعدها استكملت الطريق سيرا على الأقدام.»
وقف الآن أحد الرجال الذين كانوا وسط دائرة الأشخاص المهمين خاصة خلف الرجل الذي أشفقت عليه من حذائه. وقال: «فكرة ممتازة.» بدا واضحا أنه لم يكن يمانع في الحديث معها.
لم يهتم الرجل الأول بهذا الرجل كثيرا، وأحضر لجريتا حذاءها ومد يده ليعطيها إياه، لكنها رفضت موضحة أنه يؤلمها كثيرا. «احمليه وإلا فعلت أنا ذلك. هل بمقدورك النهوض؟»
بحثت بنظرها عن الرجل الأهم ليساعدها لكنه لم يكن موجودا. لقد تذكرت الآن ما كتبه؛ لقد ألف مسرحية عن الدوكهوبورس، الطائفة المسيحية الروسية، التي أحدثت ضجة كبيرة وجذبت انتباه الكثيرين لأنه من المفترض أن يظهر الدوكهوبورس عرايا. بالطبع ليس أفراد الطائفة هم من سيظهرون عرايا، بل مجموعة من الممثلين. وعلى أية حال، لم يسمح لهم أن يظهروا عرايا في نهاية الأمر.
حاولت أن تشرح ذلك للرجل الذي عاونها على النهوض، لكن كان من الواضح أنه لم يكن مهتما بسماع هذا. قال إنه ليس من هذا النوع من الكتاب، وإنه صحفي، وقد أتى في زيارة إلى هنا مع ابنه وابنته، اللذين هما في الوقت نفسه حفيدا أصحاب الحفلة، وكانا يساعدان في تقديم المشروبات.
قال وهو يشير إلى المشروبات المقدمة: «إنها فظيعة وقاتلة.»
أصبحا الآن بالخارج، وسارت عبر الحشائش وهي لا ترتدي في قدميها سوى الجورب، وحاولت جاهدة أن تتفادى الأوحال.
قالت لرفيقها: «لقد تقيأ أحدهم هناك.»
قال وهو يضعها في سيارة: «هذا صحيح.» أدى الهواء الطلق إلى تغيير حالتها المزاجية، من الشعور بالإثارة الذي يشوبه بعض التوتر، إلى الشعور الذي وصل إلى حد الإحراج، بل الخزي.
نامعلوم صفحہ
قال: «نورث فانكوفر.» لا بد أنها قالت له ذلك. «أهذا صحيح؟ وسنستكمل بعد ذلك حتى نصل إلى جسر ليونز جيت.»
تمنت ألا يسألها عن سبب حضورها الحفلة؛ فإن كان عليها أن تقول له إنها شاعرة، كان سينظر إلى موقفها الحالي وإلى تجاوزها على أنه نموذج لتصرفات الشعراء. لم يكن الظلام قد حل بعد، لكن كان وقت المساء قد حل. بدا أنهما كانا يسيران في الاتجاه الصحيح، مارين بجوار مسطح مائي قبل أن يصعدا عبر جسر؛ جسر بوراد ستريت. ثم استكملا السير وسط زحام مروري أكبر، وكانت تفتح عينيها لتحدق في الأشجار التي يمران بها في طريقهما، ثم تعود لتغلقهما ثانية دون هدف. أدركت حينما توقفت السيارة أنهما قد وصلا إلى المنزل؛ منزلها.
كانت تظللهما الأشجار ذات الأوراق الضخمة التي تحجب رؤية النجوم، لكن بعضها كان يلمع فوق صفحة الماء ممتزجا بأضواء المدينة.
قال: «اهدئي وفكري بالأمر.»
تعجبت للكلمة. «فكري بالأمر.» «كيف ستسيرين حتى تصلي إلى المنزل، على سبيل المثال؟ هل تستطيعين القيام بذلك بهدوء ورزانة؟ لا تبالغي في فعلك. يجب أن تكترثي لذلك. أعتقد أنك متزوجة.» «علي أن أشكرك أولا لاصطحابي إلى المنزل؛ لذا عليك أن تخبرني باسمك.»
قال لها إنه قد أخبرها بالفعل باسمه، وربما فعل هذا مرتين، وإنه لا بأس من إعادته ثانية. هاريس بينت، بينت. إنه زوج ابنة أصحاب الحفلة، وابناه كانا من بين القائمين على تقديم المشروبات، ولقد أتى هو وابناه للزيارة من تورونتو. هل كان ذلك كافيا لإرضائها؟ «هل أمهما موجودة؟» «بالطبع، لكنها في المستشفى.» «أنا آسفة.» «لا داعي للأسف. إنه مستشفى رائع لعلاج الاضطرابات العقلية، أو يمكنك القول إنه لعلاج المشكلات العاطفية.»
أسرعت وأخبرته أن زوجها يدعى بيتر، وأنه يعمل مهندسا، وأن لديهما ابنة تدعى كاتي.
قال: «حسنا، هذا شيء لطيف للغاية.» ثم بدأ يتراجع للخلف.
قال لها عند جسر ليونز جيت: «أرجو أن تعذريني فيما كنت سأفعله. كنت أفكر فيما إذا كنت سأقبلك أم لا، ثم قررت ألا أفعل.»
اعتقدت أنه كان يريد أن يقول إن هناك شيئا بشأنها جعلها لا ترقى لأن يقبلها؛ فلقد كبح جماح رغبته فجأة، وانقلبت إلى نوع من الرصانة والتعقل.
نامعلوم صفحہ
وأردف قائلا: «والآن بينما نعبر الجسر، هل نتجه يمينا إلى طريق مارين دريف؟ سأعتمد عليك لإخباري.» •••
لم يمر يوم من فصول الخريف والشتاء والربيع التالية دون أن تفكر به. لقد بدا الأمر أشبه بالحلم المتكرر الذي يحلم به المرء بمجرد أن يغط في النوم. كانت تتكئ برأسها على وسادة الأريكة الخلفية، وتتخيل أنها تستلقي بين ذراعيه. قد لا يتخيل المرء أنها لم تكن لتتذكر وجهه، لكن صورته كانت تقفز أمامها وتتذكر كل تفاصيلها؛ إنه وجه رجل من ذلك النوع من الرجال الذين يتسمون بالانطوائية والروح الساخرة، به بعض التجاعيد ويحمل تلك النظرة المتعبة. ولم تنس جسده؛ فلقد تذكرت صورته أيضا؛ حيث بدا نحيلا بعض الشيء، لكن به من التناسق ما يجعله مثيرا ومرغوبا فيه بشدة.
كانت على وشك البكاء من فرط الحنين. لكن كل تلك التخيلات كانت تختفي وتدخل في سبات عميق عندما يأتي بيتر إلى المنزل، وكانت تظهر على السطح مشاعر الود اليومية الصادقة كعهدها دائما.
لقد كان ذلك الحلم في الواقع أشبه بطقس فانكوفر؛ يحوي ذلك الحنين الموحش، والحزن الحالم الجياش، وهو ثقل يرزح تحته القلب.
لكن ماذا عن رفضه تقبيلها؟ والذي بدا أشبه بضربة قاسمة.
لقد تناسته ببساطة، وأغفلته تماما من ذاكرتها.
وماذا عن شعرها؟ لم تكتب بيتا، أو تدون كلمة؛ ليست ثمة إشارة توحي بأنها كانت تهتم به من قبل على الإطلاق.
وبالطبع كانت تنتابها نوبات اللهفة تلك في الغالب عندما تكون كاتي نائمة؛ فكانت تنطق اسمه بصوت عال في بعض الأحيان، كانت تعتريها حالة من الحماقة، ثم يعقبها شعور شديد بالخزي والخجل حيث تشعر بالازدراء حيال ما تفعله. حالة من البلاهة والغباء. إنها تشعر حقا بأنها بلهاء.
ثم جاءت المفاجأة الشديدة؛ احتمالية العمل بمشروع في لوند، ثم التأكيد على ذلك، ثم عرض الإقامة في منزل الصديقة بتورونتو. هناك تغير واضح في الطقس، فرصة للتحلي ببعض الجرأة. •••
وجدت نفسها تكتب خطابا. لم تبدأه على أي نحو معتاد؛ فلم تكتب «عزيزي هاريس» أو «هل تتذكرني؟»
نامعلوم صفحہ
إن كتابة هذا الخطاب أشبه بوضع رسالة في زجاجة
وتمني
أن تصل إلى اليابان.
كان أقرب إلى قصيدة.
لم تكن لديها أدنى فكرة عن العنوان، كان لديها من الجرأة والحماقة ما يكفي لجعلها تهاتف أصحاب الحفل، لكن عندما أجابتها المرأة على الطرف الآخر، شعرت بجفاف في حلقها وبخواء داخلي يشبه خواء سهول التندرا، وأغلقت الخط. وحملت كاتي في عربتها وذهبت بها إلى المكتبة العامة، وعثرت على دليل الهاتف الخاص بتورونتو؛ وجدت الكثير ممن يحملون اسم بينت، لكن ليس من بينهم من اسمه الأول هاريس، أو اسمه إتش بينت.
واتتها فكرة مزعجة، وهي أن تنظر في صفحة الوفيات بجريدة تورونتو، ولم تستطع أن تمنع نفسها من تنفيذها. انتظرت حتى انتهى الرجل الذي كان يقرأ نسخة الجريدة المتواجدة بالمكتبة. إنها عادة لا تقرأ تلك الجريدة لأنه ينبغي عبور الجسر للحصول عليها، وعادة ما يحضر بيتر معه جريدة «فانكوفر صن». راحت تقلب صفحات الجريدة بسرعة حتى عثرت على اسمه أعلى أحد الأعمدة. إذن فهو لم يمت؛ إنه صاحب عمود بالجريدة، وهو لا يرغب بطبيعة الحال في أن يزعجه الآخرون ويحادثوه هاتفيا في منزله بالحصول على رقم هاتفه من دليل الهاتف.
كان يكتب عن السياسة، بدا أن أسلوبه جذاب وتتسم كتابته بالبراعة، لكنها لم تهتم بأي من ذلك.
وأرسلت خطابها إليه هناك، إلى عنوان الجريدة. لم تكن واثقة من أنه يفتح بريده الخاص، واعتقدت أن وضع كلمة «خاص» على الظرف من شأنه أن يثير المشاكل؛ لذا كتبت فقط تاريخ وصولها وموعد القطار بعد العبارة الخاصة بالزجاجة. لم تذكر اسمها؛ فقد اعتقدت أن من يفتح الظرف قد يظن أنها قريبة متقدمة في العمر معتادة على الكتابة بطريقة غريبة؛ فليس ثمة شيء يمكن أن يسبب له أي نوع من الإزعاج أو المشكلات، حتى بافتراض إرسال ذلك الخطاب إلى منزله وفتحه من قبل زوجته، التي لا بد أنها قد غادرت المستشفى الآن. •••
كان من الواضح أن كاتي لا تعي أن وجود بيتر على رصيف المحطة يعني أنه لن يسافر بصحبتهما. وعندما شرعا في التحرك بينما لم يفعل هو، وعندما تركاه خلفهما حينما زاد القطار من سرعته؛ تأثرت بشدة إزاء تركه إياهما. لكنها هدأت بعد فترة، مخبرة جريتا أنه سيكون معهما بحلول الصباح.
وعندما قدم ذلك الصباح كانت جريتا تشعر بالحزن والقلق، لكن كاتي لم تذكر شيئا عن غياب أبيها على الإطلاق. سألتها جريتا إن كانت تشعر بالجوع وردت كاتي بالإيجاب، ثم راحت توضح لأمها - كما فعلت قبل أن يطآ القطار - أن عليهما خلع ملابس النوم وتناول إفطارهما في مكان آخر بالقطار. «ما الذي ترغبين في تناوله على الإفطار؟» «بازلاء مقرمشة.» كانت تعني رقائق الإفطار رايس كريسبيز. «سنرى إن كان لديهم منها هنا أم لا.»
نامعلوم صفحہ
وقد وجدا ما تريدانه وأكلتا منه. «والآن هل سنذهب ونجد أبي؟» •••
كانت توجد مساحة مخصصة للعب الأطفال لكنها كانت صغيرة للغاية، وقد شغلها ولد وبنت، بدا واضحا من خلال ملابسهما المتماثلة المطبوعة عليها صورة أرنب أنهما شقيقان، وكانت لعبتهما عبارة عن تحريك عربتين صغيرتين إحداهما في اتجاه الأخرى، ثم الانحراف بهما في آخر لحظة. لكن العربتين ارتطمتا محدثتين ضجيجا عاليا.
قالت جريتا: «هذه كاتي وأنا والدتها. ما اسمكما؟»
علا الضجيج الناتج عن اصطدام العربتين، ولم يرفع الطفلان بصرهما لأعلى.
قالت كاتي: «أبي ليس معنا.»
رأت جريتا أنه من الأفضل أن يرجعا إلى مقصورتهما ويحضرا كتاب كريستوفر روبين الخاص بكاتي، ويأخذاه إلى عربة المشاهدة المقببة لكي تقرأه لها. وليس ثمة احتمال أن يسببا إزعاجا لأحد؛ لأن الإفطار لم ينته بعد، ولم يمر القطار بعد على المناظر الجبلية الهامة.
وكانت المشكلة أنه بمجرد انتهاء جريتا من قراءة الكتاب، أرادت كاتي أن تعيد عليها قراءته مرة ثانية على الفور. كانت هادئة خلال المرة الأولى، لكنها راحت الآن تردد معها ما تقول في نهاية السطور، وفي المرة التي تلتها أخذت تردد خلفها كل كلمة، بالرغم من أنها لم تصل لمرحلة قراءته بنفسها. تخيلت جريتا أن ذلك يمكن أن يكون مصدر إزعاج للآخرين في حال امتلاء عربة المشاهدة؛ فالأطفال في عمر كاتي ليست لديهم أي مشكلة في التكرار، بل على العكس هم يحبون ذلك الأسلوب بشدة، ويغرقون فيه ويلوكون الكلمات المألوفة مرارا كما لو أنها قطعة من الحلوى التي لن تفنى أبدا.
صعد الدرج صبي وفتاة، وجلسا قبالة جريتا وكاتي، وألقيا تحية الصباح في بهجة شديدة وردت جريتا تحيتهما، ولم يرق لكاتي ترحيبها وتقبلها لوجودهما، وواصلت إلقاء الكلمات بصوت خفيض وهي تنظر إلى الكتاب.
وعبر المقعد الواقع ناحية الممر انبعث صوت الصبي هادئا كصوتها وهو يردد:
إنهم يغيرون الحراس عند بوابة قصر باكينجهام
نامعلوم صفحہ
لقد ذهب كريستوفر روبين بصحبة أليس.
بعد أن انتهى من تلك العبارة، بدأ عبارة أخرى: «إنني لا أحبها؛ أنا سام.»
ضحكت جريتا لكن كاتي لم تفعل. لاحظت جريتا أن كاتي شعرت ببعض الغضب والضيق؛ إنها تعي أن بعض الكلمات السخيفة قد تخرج من كتاب ما، ولكن ليس من فم شخص لا يحمل كتابا.
قال الصبي لجريتا: «معذرة، فنحن في مرحلة ما قبل المدرسة، وهذا هو الأدب الذي ندرسه.» ثم انحنى نحو كاتي وتحدث إليها في جدية وهدوء، قائلا: «هذا كتاب لطيف، أليس كذلك؟»
قالت الفتاة موجهة حديثها لجربتا: «إنه يعني أننا نعمل مع الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة. مع هذا قد يختلط علينا الأمر في بعض الأحيان.»
استمر الصبي في حديثه مع كاتي. «أعتقد أنه بمقدوري تخمين اسمك الآن. ما هو؟ أهو روفس، أم روفر؟»
عضت كاتي شفتيها ولم تستطع أن تكبح رغبتها في أن ترد ردا عنيفا.
فقالت: «أنا لست بكلبة.» «أوه، من المفترض ألا أتسم بهذا الغباء. أنا صبي واسمي جريج، وهذه الفتاة تدعى لوري.»
قالت لوري: «لقد كان يعمد إلى إغاظتك، هل تودين أن أضربه؟»
فكرت كاتي في الأمر ثم قالت: «لا.»
نامعلوم صفحہ
استمر جريج في حديثه قائلا: «أليس تتزوج واحدا من الحراس. تقول أليس: «إن حياة الجندي شاقة حقا».»
راحت كاتي تردد الكلمات في هدوء عند ذكر اسم أليس في المرة الثانية.
أخبرت لوري جريتا بأنهما يجوبان الحضانات لأداء بعض المقاطع الكوميدية، وهذا ما يطلق عليه أعمال إعداد الأطفال لمرحلة القراءة. كانا ممثلين في الواقع. وأضافت أنها ستنزل في جاسبر حيث ستعمل نادلة في فترة الصيف بجانب تقديم بعض المقاطع الكوميدية؛ وهذا لا يتعلق بإعداد الأطفال لمرحلة القراءة في الواقع، لكن ما يطلق عليه ترفيه البالغين.
قالت: «يا إلهي.» ثم ضحكت قائلة: «استفيدي من الأمر قدر ما تستطيعين.»
أما جريج، فلا يرتبط بأي عمل، وكان في طريقه لمدينة ساسكاتون حيث تقطن عائلته.
حدثت جريتا نفسها بأن كليهما يتسم بالجاذبية والجمال. كانا طويلي القامة، ذوي قد رشيق جدا. كان له شعر داكن مجعد، أما شعرها فكان أسود يسترسل في نعومة كشعر مريم العذراء. وعندما ذكرت وجه الشبه بينهما فيما بعد بفترة، قالا إنهما يستفيدان من ذلك في بعض الأحيان، وذلك عندما يتعلق الأمر بالترتيبات الخاصة بالمعيشة؛ فذلك يجعل الأمور أيسر بكثير، لكن كان عليهما أن يتذكرا طلب سريرين، والتأكد من جعل السريرين يبدوان في حالة فوضى إثر نومهما عليهما بالليل. •••
وقد أخبراها الآن أن ليس ثمة ما يدعو للقلق، فلا شيء يبعث على الضيق والغضب. لقد انتهت علاقتهما، وذلك بعد ثلاث سنوات أمضياها معا. ولم يقيما أي علاقات حميمة منذ أشهر، على الأقل كل منهما مع الآخر.
قال جريج لكاتي: «والآن يكفي الحديث عن قصر باكينجهام. علي أن أقوم ببعض التمرينات.»
اعتقدت جريتا أن ذلك يعني أنه سيهبط لأسفل، أو على الأقل سيتجه إلى الممر من أجل أداء بعض التمرينات ، لكن بدلا من ذلك قام هو ولوري بإلقاء رأسيهما للخلف، ومدا صوتيهما، وراحا يصيحان ويصدران أصواتا عالية، ويصدحان ببعض الأغاني الغريبة. شعرت كاتي بالسعادة، واعتبرته إهداء لها؛ عرضا لكي تستمتع به. وقد تصرفت على نحو لائق حيث أدت دور الجمهور؛ فظلت ساكنة حتى انتهى العرض، ثم انفجرت بعدها في الضحك.
توقف بأسفل الدرج بعض الأشخاص الذين كانوا يبغون صعوده، ولم يشعروا بنفس درجة الإبهار التي كانت تشعر بها كاتي، ولم يدروا بما يعقبون.
نامعلوم صفحہ
قال جريج: «معذرة.» دون أي توضيح، لكن على نحو ينم عن نوع من الود وطلب الصداقة، ثم مد يده نحو كاتي ليصطحبها، وقال: «لنر إن كان هناك مكان للعب.»
تبعتهما جريتا ولوري. وتمنت جريتا ألا يكون جريج واحدا من هؤلاء البالغين الذين يقيمون صداقات مع الأطفال للتيقن من مدى جاذبيتهم لديهم، ثم يغلب عليهم بعد ذلك الشعور بالملل والغضب عندما يدركون أن الأطفال لا يملون من التعلق بهم وإظهار مشاعرهم نحوهم.
وأثناء وقت الغداء أو بعده بقليل، أدركت أنها ليست بحاجة إلى القلق؛ فلم يحدث أن شعر جريج بالإنهاك والملل حيال اهتمام كاتي وتعلقها، بل انضم العديد من الأطفال الآخرين إلى ساحة المنافسة، ولم يبد على جريج مطلقا أي شيء ينم على شعوره بالملل.
لم يقم بالترتيب لأي نوع من المنافسة؛ لقد نجح في جذب الانتباه إليه أولا، ثم جعل الأطفال ينتبه كل منهم للآخر، ثم جعلهم يمارسون بعض الألعاب الممتعة، أو حتى المثيرة التي تستنزف طاقتهم، وليس تلك العنيفة التي تسبب ضيقهم. لم يظهر أحدهم أي شعور بالغضب، واختفت سلوكيات الأطفال المعهودة التي تعكس تدللهم. لم يكن هناك ببساطة وقت لذلك؛ فقد كانت هناك ألعاب مثيرة تجذب اهتمامهم. لقد كان ذلك بمنزلة معجزة؛ كيف استطاع بمنتهى السهولة أن يسيطر عليهم في تلك المساحة الصغيرة. أما طاقتهم التي استنزفوها، فستجعلهم يغفون سريعا في المساء.
قالت جريتا للوري: «إنه رائع.»
قالت لوري: «هو هكذا في أغلب الأحيان، إنه لا يدخر طاقته. كثير من الممثلين يفعلون ذلك؛ الممثلين بوجه خاص، وقد يموتون عندما لا يمثلون.»
حدثت جريتا نفسها قائلة: هذا ما أفعله؛ إنني أدخر طاقتي معظم الوقت. لكني أهتم بكاتي، وأهتم ببيتر.
في خلال العقد الذي دخلوا فيه بالفعل، وهو الشيء الذي لم تلاحظه هي على الأقل، سيكون هناك الكثير من الاهتمام الذي سيولى لصفة التواجد التي وصفت بها لوري جريج، والتي سيتغير معناها لمعنى لم يعتد عليه من قبل؛ الاتفاق مع ما هو سائد. العطاء. يوجد أشخاص معطاءون وآخرون ليسوا كذلك. وكان من المفترض أن تتلاشى الحواجز بين ما يدور داخل عقلك وما يدور خارجه؛ فالمصداقية تتطلب ذلك. كانت أشياء مثل قصائد جريتا التي لا تتفق مع ما هو سائد مصدر ريبة، بل مصدر احتقار أيضا في بعض الأحيان. بالطبع، استمرت على نحو صحيح في فعل ما كانت تفعله؛ فقد كانت تعارض الثقافة المضادة وتسبر غورها سرا بعزم. ولكن في اللحظة الحاضرة، استسلمت طفلتها تماما لجريج، وأيا ما كان يفعله؛ فقد كانت تشعر حياله بالامتنان الكامل.
وكما توقعت جريتا فقد خلد الأطفال للنوم في فترة ما بعد الظهيرة، وكذلك فعل بعض الأمهات، بينما راح بعضهن يلعب الورق. أخذ جريج وجريتا يلوحان للوري عندما نزلت في جاسبر، بينما راحت هي تبعث لهم بالقبلات وهي تقف على رصيف المحطة. ظهر رجل متقدم في العمر وحمل عنها حقيبتها، وقبلها بحنان ثم لوح لجريج الذي أشار إليه بدوره هو الآخر.
قال جريج: «إن حاضرها يعانقها.»
نامعلوم صفحہ
راحوا يلوحون بشدة عندما شرع القطار في التحرك، ثم اصطحب هو وجريتا كاتي مرة أخرى إلى مقصورتها حيث غطت الطفلة في النوم بينهما؛ فقد تبعت من اللعب والقفز، فراحت في النوم. فتحا ستارة المقصورة لإدخال بعض الهواء، ولم تعد هناك خطورة الآن من أن تسقط الطفلة من النافذة.
قال جريج: «إنه لشيء رائع أن يكون لدى المرء طفل.» كانت تلك كلمة جديدة أخرى في ذلك الوقت، أو على الأقل جديدة بالنسبة إلى جريتا.
قالت: «هذا شيء معتاد.» «إنك هادئة جدا. الشيء التالي الذي ستقولينه: «إن هذا شأن الحياة».»
قالت: «لا، لن أفعل.» وظلت تحدق في عينيه حتى هز رأسه وضحك.
أخبرها بأنه دخل مجال التمثيل بسبب ديانته، فعائلته كانت تنتمي لإحدى الطوائف المسيحية التي لم تسمع بها جريتا من قبل. ولم تكن تلك الطائفة وافرة العدد لكنها كانت ثرية جدا، أو على الأقل بعض أفرادها كذلك؛ فبنوا كنيسة وألحقوا بها مسرحا، وذلك في إحدى البلدات الواقعة في منطقة البراري؛ ومن هنا بدأ التمثيل قبل أن يبلغ العاشرة من العمر. كانوا يعرضون قصصا ومواعظ من الكتاب المقدس، ومن الحاضر أيضا، بشأن الأشياء المروعة التي تقع للأشخاص الذين لا يؤمنون بتعاليم الطائفة. كانت عائلته فخورة جدا به، وكذا كان هو الآخر فخورا بنفسه؛ فلم يكن يحلم بأن يقص عليهم كل ما يجري عندما يأتي المؤمنون من الطائفة من الأثرياء لتجديد إيمانهم، ويحصلون على عزم جديد في حضرتهم. على أية حال، كان يروق له كل ذلك الاستحسان، وقد أحب التمثيل.
استمر الأمر على هذا الوضع حتى أتى اليوم الذي واتته فكرة التمثيل خارج نطاق الكنيسة وتعاليمها، وحاول أن يعرض فكرته بهدوء وأدب، لكنهم قالوا له بأن الشيطان قد سيطر على عقله؛ فقال ساخرا إنه يعلم من الذي تمكن منه الشيطان.
ثم رحل مودعا.
قال: «لا أريدك أن تعتقدي أن كل ما في هذا الدين سيئ، فأنا ما زلت أومن بالصلاة وبكل شيء، لكني لا أستطيع أن أخبر عائلتي بما أفعله؛ فأي شيء يعلمونه بشأني قد يقضي عليهم. هل تعرفين أناسا كهؤلاء؟»
أخبرته أنها حينما انتقلت هي وبيتر لأول مرة إلى فانكوفر، اتصلت جدتها التي كانت تعيش في أونتاريو بكاهن في إحدى الكنائس هناك كانت تعرفه، وطلبت منه الذهاب لمنزل جريتا، فلبى دعوة جدتها، لكن جريتا قابلته بنوع من التكبر والغطرسة. قال إنه سيصلي من أجلها، فأوضحت له دون أن تنطق بأي كلمة بأن عليه ألا يهتم بشأنها. كانت جدتها تحتضر في ذلك الوقت. شعرت جريتا بالخزي، وكانت تشعر بالغضب حيال هذا الشعور بالخزي كلما فكرت في هذا الأمر.
لم يتفهم بيتر مثل هذه الأمور؛ فلم تذهب أمه مطلقا إلى أية كنيسة، على الرغم من أن أحد أسباب هروبها به وهو صغير عبر الجبال ربما يكون أن يصبحا كاثوليكيين. كان يقول إن الكاثوليك ربما يتمتعون ببعض المزايا؛ فبمقدورك تقليل المخاطر، حتى الموت.
نامعلوم صفحہ
كانت تلك المرة الأولى التي يطرأ بيتر على ذهنها منذ فترة.
الحقيقة أن جريج وجريتا كانا يحتسيان الشراب بينما يتبادلان ذلك الحوار الكئيب والباعث على الراحة بعض الشيء في نفس الوقت. كان قد أحضر زجاجة من خمر الأوزو. كانت حذرة إلى حد ما بشأن تناوله، تماما كما كانت مع أي نوع من الكحوليات منذ ذلك اليوم الذي ثملت فيه في حفلة الكتاب، لكن بدأ يظهر بعض أثر تناولهما لهذا النوع من الخمر، الذي جعل كلا منهما يعبث بيد الآخر، ثم شرعا في تبادل القبلات والملاطفة. كل ذلك كان يجري بجوار الطفلة التي كانت تغط في النوم.
قالت جريتا: «علينا ألا نكف عن ذلك، وإلا أصبح المشهد مؤسفا.»
قال: «لسنا من يفعل ذلك، وإنما اثنان غيرنا.» «أخبرهما أن يكفا إذن. ألا تعرف اسميهما؟» «انتظري. إنهما رج. رج ودوروثي.» «إذن كف عن ذلك يا رج. وماذا عن طفلتي البريئة؟» «بمقدورنا الذهاب إلى مقصورتي، إنها ليست ببعيدة.» «ليس لدي أي ...» «أنا لدي.» «يبدو أنك معتاد على هذا الأمر.» «بالطبع لا. أي نوع من الوحوش تظنينني؟»
رتبا الأغطية التي تبعثرت، ثم انسلا من المقصورة، وراحا يغلقان جيدا أزرار فراش كاتي الذي تنام عليه. ثم شقا طريقهما من مقصورتها إلى مقصورة جريج وهما يتمايلان في نشوة واسترخاء. لم يكن ثمة داع لأن يغادرا مقصورتها؛ فلم يصادفا أحدا في طريقهما؛ فالأشخاص الذين لم يكونوا موجودين في عربة المشاهدة المقببة لالتقاط صور للجبال الممتدة، كانوا إما في عربة الحانة، وإما نائمين.
وفي مقصورة جريج غير المرتبة استكملا ما كانا قد بدآه. لم تكن هناك مساحة تكفي لكي يستلقي شخصان بصورة مريحة، فالتصق كل منهما بالآخر. في البداية لم تنقطع ضحكاتهما المكتومة، وتبعتها لحظات من المتعة العارمة ، ولم يكن ثمة مكان يقع عليه بصرهما سوى عيني كل منهما. كانا يعض كل منهما الآخر كيلا تصدر عن أي منهما أي أصوات عالية.
قال جريج: «رائع، جميل.»
قالت: «علي أن أعود أدراجي.» «سريعا هكذا؟» «قد تستيقظ كاتي ولا تجدني.» «حسنا، حسنا. على أية حال، علي أن أستعد للنزول في ساسكاتون. ماذا لو كنا بلغناها وسط ما كنا نفعله؟ كنت سأقول: مرحبا أمي، مرحبا أبي. معذرة، انتظراني دقيقة بينما ...!»
استجمعت شتات نفسها وأصلحت هندامها، وتركته. في الواقع لم تهتم بمن يمكن أن تقابله في طريقها. كانت واهنة، مشدوهة، لكن يغمرها الإحساس بالنشوة والبهجة كالمصارع بعد جولة عنيفة في حلبة المصارعة؛ هكذا فكرت في الأمر والابتسامة تعلو وجهها.
على أية حال لم تلتق بأحد.
نامعلوم صفحہ
لم تجد المشبك السفلي للستارة مغلقا، لكنها كانت تتذكر جيدا أنها أغلقته قبل أن تذهب. ومع ذلك، فحتى إن كان مفتوحا فسيكون من الصعب أن تنسل كاتي من بينها، وبالقطع لن تحاول. عندما تركتها جريتا ذات مرة لتذهب إلى الحمام أوضحت لها جيدا أنه لا ينبغي على كاتي أن تتبعها، وأجابتها كاتي حينها قائلة: «لن أفعل.» كما لو أنها تقول لأمها أنها لا تزال تعاملها كطفل رضيع.
أمسكت جريتا بالستارة كي تفتحها على آخرها، وعندما فعلت لم تجد كاتي.
جن جنونها ورفعت الوسادة كما لو أن طفلة بحجم كاتي يمكن أن تخفي نفسها تحتها. أخذت تمرر يدها على الغطاء؛ فربما تختفي كاتي تحتها. استطاعت السيطرة على أعصابها وحاولت أن تسترجع الأماكن التي توقف بها القطار، وتفكر إن كان قد توقف بالفعل أم لا، وذلك خلال الوقت الذي أمضته مع جريج. ولكن هل من الممكن أن يكون قد تسلل أحد الخاطفين أثناء توقف القطار - إن كان قد توقف بالأساس - وحمل كاتي وفر هاربا بها؟
وقفت في الممر تحاول أن تفكر بما يمكن فعله لكي توقف سير القطار.
ثم فكرت - أو هكذا أجبرت نفسها على الاعتقاد - بأن شيئا من هذا القبيل لا يمكن أن يحدث، وقالت في نفسها: لا تكوني سخيفة، لا بد أن كاتي قد استيقظت ولم تجدني وذهبت لتبحث عني، بمفردها.
لا بد أن تكون في مكان ما بالقرب من هنا. لا بد أن تكون في مكان قريب. إن البابين المتواجدين عند طرفي المقصورة صعبا الفتح جدا عليها.
استطاعت بالكاد أن تتحرك من مكانها، شعرت بأن عقلها وجسدها قد أضحيا فارغين. لا يمكن أن يكون قد حدث ذلك واختفت الطفلة. يا ليت الوقت يعود قبل أن تذهب مع جريج. ليته توقف هناك.
كان هناك مقعد شاغر بجوار الممر، وقد وضع أحدهم فوقه سترة نسائية ومجلة لحجزه، وعلى مسافة أبعد منه كان هناك مقعد مشابك أحزمته كلها مربوطة، تماما مثل تلك الخاصة بها هي وابنتها، فقامت بفكها بيد واحدة. تحرك الرجل العجوز الذي كان مستلقيا على المقعد ويغط في نوم عميق، ليستلقي على ظهره لكنه لم يستيقظ، ولم يكن ثمة احتمال أنه يخفي أحدا.
يا لبلاهتها!
ساورها خوف جديد. لنفترض أن كاتي شقت طريقها إلى إحدى نهايتي العربة ونجحت بالفعل في فتح أحد بابيها، أو أنها قد تتبعت شخصا فتحه أمامها. هناك ممر قصير بين العربات حيث تجد نفسك في الواقع تسير فوق المكان الذي يربط بين العربات بعضها ببعض؛ يمكنك هناك أن تستشعر حركة القطار بطريقة مفاجئة ومزعجة، ويوجد أمامك باب ثقيل ومن خلفك آخر مثله، وعلى جانبي الممر ترى ألواحا معدنية تصدر ضجيجا عاليا، وهي تغطي الدرج الذي يتم إنزاله عندما يتوقف القطار.
نامعلوم صفحہ
وغالبا ما يسرع المرء من خطاه عبر تلك الممرات؛ حيث يذكره ذلك الضجيج والتمايل بكيفية ترتيب الأشياء معا وتنظيمها بطريقة يبدو أنه من الممكن في النهاية تغييرها؛ فالتمايل والضجيج هذان يحدثان بصورة متقطعة غير منتظمة ولكنها سريعة.
كان الباب المتواجد في نهاية العربة ثقيلا ويصعب فتحه حتى بالنسبة إلى جريتا، أو يبدو أن الخوف استنفد طاقتها فراحت تدفعه بكتفها بكل قوتها.
وهناك، بين العربات وعلى واحد من تلك الألواح المعدنية التي تصدر ضجيجا باستمرار وجدت كاتي جالسة. كانت عيناها مشدوهتين، وفمها مفتوحا بعض الشيء تشعر بالدهشة والوحدة. لم تكن تبكي على الإطلاق، لكن بمجرد أن رأت أمها شرعت في البكاء.
جذبتها جريتا ورفعتها لتضعها على وركها، واستدارت بصعوبة مواجهة الباب الذي كانت قد فتحته لتوها.
كانت جميع عربات القطار تحمل أسماء لإحياء ذكرى بعض المعارك أو الاستكشافات أو المشاهير الكنديين، وكانت عربتهما تحمل اسم كونوت. إنها لم تكن لتنسى هذا الاسم مطلقا.
لم تصب كاتي بأي أذى على الإطلاق، ولم تشتبك ملابسها كما هو متوقع بالأطراف الحادة المتغيرة للألواح المعدنية.
قالت: «لقد ذهبت لأبحث عنك.»
متى؟ منذ دقيقة فقط؟ أم بعد أن تركتها جريتا مباشرة؟
بالقطع لا، لا بد أن أحدهم كان سيلمحها هناك ويحملها، ثم يذهب ليبلغ عن العثور على طفلة.
كان اليوم مشمسا لكنه ليس دافئا في واقع الأمر، وكانت يدها ووجهها باردين للغاية.
نامعلوم صفحہ
قالت: «ظننتك على الدرج.»
دثرتها جريتا بالغطاء الموضوع على فراشهما، وحينها بدأت تشعر هي الأخرى برعشة تسري في أوصالها كما لو أن حمى قد أصابتها. شعرت بغثيان، واستشعرت بالفعل آثار بعض القيء في حلقها. قالت كاتي: «لا تدفعي بي هكذا.» ثم تلوت وأزاحت نفسها بعيدة عنها.
وقالت: «تفوح منك رائحة كريهة.»
أزاحت جريتا ذراعيها بعيدا ثم استلقت على ظهرها.
كان ما حدث أمرا فظيعا، تصوراتها عما كان من الممكن أن يحدث كانت مفزعة. كانت الطفلة لا تزال ثائرة وتنأى بنفسها بعيدا عنها.
لا بد أن أحدهم كان سيعثر على كاتي؛ فكان سيلمحها هناك شخص محترم، وليس شريرا، ويحملها إلى حيث تكون في مأمن. كانت جريتا ستسمع الإعلان المفزع، أخبار العثور على طفلة بمفردها في القطار، طفلة تقول إن اسمها هو كاتي. كانت جريتا ستهرع إليهم من المكان الذي كانت تتواجد فيه في تلك اللحظة، محاولة أن تهندم نفسها قدر الإمكان، لتخبرهم بأن الطفلة هي ابنتها وكانت ستكذب حين تقول إنها كانت في الحمام حينما وجدوا طفلتها. كانت ستكون خائفة جدا، لكنها في نفس الوقت لم تكن لترى الوضع الذي كانت عليه طفلتها الآن؛ لم تكن لترى طفلتها وهي تجلس في ذلك المكان المزعج، عاجزة لاحول لها ولا قوة بين عربات القطار، لا تبكي أو تتذمر كما لو أنه كان عليها أن تبقى في هذا المكان للأبد دون أن يقدم لها أحد أية تفسيرات لذلك، ودون وجود أي بادرة أمل تلوح في الأفق لإخراجها مما هي فيه. كانت عيناها على نحو غريب خاليتين من أي تعبير، وكان فمها مفتوحا بعض الشيء، وذلك في اللحظة التي سبقت تفاجئها بحقيقة إنقاذها، وحينها شرعت في البكاء؛ حينها فقط، استعادت عالمها، وحقها في البكاء والشكوى.
قالت الآن إنها لم تكن ترغب في النوم، وأنها تريد أن تظل مستيقظة. وسألت عن مكان جريج، فأخبرتها جريتا أنه يأخذ غفوة لأنه متعب.
ذهبت بصحبة جريتا إلى عربة المشاهدة المقببة لقضاء بقية فترة ما بعد الظهيرة بها، ولم يكن بها أحد سواهما تقريبا؛ فلا بد أن الأشخاص الذين كانوا يلتقطون الصور قد شعروا بالتعب وقت التقاطهم صورا لجبال روكي. وبحسب تعليق جريج من قبل، إن أرض البراري التي يمرون بها قد ألقت بعض الكآبة والملل في نفوسهم.
توقف القطار لوقت قصير في ساسكاتون وهبط منه عدة أشخاص، وكان جريج من بينهم، ورأت جريتا شخصين يحييانه بدا واضحا أنهما والداه، وحيته أيضا امرأة تجلس على مقعد متحرك، ربما تكون جدته، ثم التف حوله مجموعة من الشباب الذين كانوا بانتظاره وقد ارتسمت على وجوههم أمارات البهجة والحياء. لم يبد على أي منهم أنه ينتمي إلى طائفة دينية، أو أنهم أناس تغلب عليهم الشدة والصرامة بأي حال من الأحوال.
لكن كيف يكون بمقدورك أن تلمح ذلك وتتأكد من أنه موجود في أي شخص من الأشخاص؟
نامعلوم صفحہ