لهذا لم أظهر في السياسة ظهور غيري، ولم أكتو بنيرانها، وأنعم بجنانها كما فعل غيري.
ظللت في القضاء أربع سنين، سنة في قويسنا، وسنة في طوخ، وسنتين في محكمة الأزبكية، ومع ذلك فلم أستمرئ القضاء ولم أسعد به؛ كل ما أراه أسر قد خربت، أما الأسر السعيدة فلا أراها. زوجة تطلب نفقة من زوجها، وزوج يطلب الطاعة من زوجته، ونحو ثمانين في المائة من القضايا من هذا القبيل فيحكم بالنفقة على الزوج، فإن لم يدفع فيحكم بالحبس، ويحكم بالطاعة على الزوجة، وظللت أحكم بالطاعة وأنا لا أستسيغها ولا أتصورها، كيف تؤخذ المرأة من بيتها بالبوليس وتوضع في بيت الزوج بالبوليس كذلك؟ وكيف تكون هذه حياة زوجية؟ إني أفهم قوة البوليس في تنفيذ الأمور المادية، كرد قطعة أرض إلى صاحبها، ووضع محكوم عليه في السجن، وتنفيذ حكم بالإعدام ونحو ذلك من الأمور المالية والجنائية. أما تنفيذ المعيشة الزوجية بالبوليس فلم أفهمه مطلقا إلا إذا فهمت حبا بإكراه، أو مودة بالسيف. ولهذا كنت أصدر هذه الأحكام بالتقاليد لا بالضمير، وبما في الكتب والقوانين واللوائح، لا بالقلب. وكنت أشعر شعور من يمضغ حصى أو يتجرع الدواء المر. وباقي القضايا على هذا المنوال أيضا: امرأة يدعيها زوجان زوج بورقة عرفية وزوج بورقة رسمية، ودعوى زوجة طلاقا ينكره الزوج، ونحو ذلك من أمور لا تختلف عن الأكثرية كثيرا. فإن استفدت شيئا من عملي في هذا المنصب فدراسة اجتماعية عملية للأسر المصرية. وقد ظهرت على عهدي هذا ظاهرة جديدة لم تكن معروفة كثيرا قبل هذا العهد، وهي تقاضي الأسر المتوسطة والأسر العالية أمام المحاكم وقد كان هذا فيما مضى يعد عارا كبيرا، ولا يلجأ إلى المحاكم إلا الأسر الفقيرة وأمثالها.
ومما أفادني أني كثيرا ما كنت أنحي المحامين عن الكلام وتزويقهم للأمور وادعاء بعضهم ما ليس بصحيح، وأطلب حضور المتخاصمين شخصيا في جلسة سرية، وأستمع إلى كل منهما في تؤدة وتقص لمعرفة الأسباب الأساسية التي أدت إلى هذا النزاع مما لا يذكره المحامون عادة. فكنت أعرف سر الخصومة، وذلك شيء ليس في الأوراق، ثم أعالج هذا السر بما أراه ناجحا - وأكثر ما يكون بالصلح بين المتخاصمين - إما بالفرقة إذا لم يكن أمل في نجاح الأسرة، وإما بالنصح بما يحسم الخلاف، كأن يسكن الزوجان بعيدين عن أهل الزوج أو أهل الزوجة أو نحو ذلك.
ثم استفدت المران على الحكم على الأشياء، فالقضاء لا يكون إلا بعد فهم الدعوى، ولا يكون الفهم حتى يسمع كلام الطرفين، ولا يكون الحكم حتى تدرس القضية من جميع نواحيها، ولا يكون حتى يتكون الرأي بناء على أسباب معقولة: كل هذه دروس منطقية عملية تطبع الشخص بطابع خاص لا يجده في التدريس ولا في غيره من الوظائف فأربع سنين يشغل فيها الذهن ليل نهار بالتفكير في قضايا وتحليل لها وتأمل في أحكام هذه القضايا ووضع أسباب لما وصل إليه من حكم لابد أن تترك في النفس أثرا عميقا.
ولقد هممت في بعض أيامي في القضاء أن أدرس الأسرة دراسة علمية، فأعددت كتبا كثيرة فيها باللغة الإنجليزية، وأردت تطبيق ذلك على ما أراه من الأسر المصرية، واستخراج الإحصاءات الرسمية في عدد ما يحدث في مصر من زواج ومن طلاق ونسبة الطلاق إلى الزواج ونسبة من يتزوج أكثر من واحدة إلى غير ذلك من إحصاءات، لأستنتج النتائج الاجتماعية التي تدل عليها، ولكني مع الأسف لم أتمم هذا البحث.
وفي سني القضاء نسيت ما كانت توصيني به السيدة الإنجليزية، من قولها تذكر أنك شاب، بل كنت أتذكر دائما أنني شيخ، فالقضاء الشرعي يتطلب وقارا وجلالا ومشيا بطيئا وحركة جامدة وإلا كان أهوج أرعن، والقاضي الشرعي - بجانب ذلك - ينظر إليه على أنه رئيس ديني، فيجب أن يتحرج من الجلوس في قهوة أو أن يكون في ناد تشرب فيه خمر أو يلعب فيه ميسر. وإذا جلس في قوم فلابد أن يتحدث حديثا دينيا أو أخلاقيا وعلى الأقل أن يكون جادا لا يمزح ووقورا لا يضحك، وحدث مرة وأنا قاض في قويسنا حادث مربك، فقد دعاني إلى العشاء طبيب المركز مع كبار الموظفين وبعض كبار الأعيان وأنا أعلم أن بعض المدعوين يشرب خمرا، فتأخرت في الذهاب إلى بيت الطبيب حتى يأخذوا حريتهم قبل حضوري، فلما ذهبت وجدت الباب مفتوحا والمدعوين في حجرة أمام الباب فانتظرت حتى يأتي الخادم فلم يحضر، فدخلت عليهم في الحجرة وإذا هي معمعة وإذا هي حانة، وإذا الكئوس تملأ، فبهت الحاضرون وبهت وخجلوا وخجلت، وإذا بعضهم يأخذ الزجاجة ويخفيها تحت المائدة، وزاد اضطرابي واضطرابهم، وارتباكي وارتباكهم، فقصدت إلى الطبيب صاحب الدعوة وأفهمته أني حضرت لأعتذر. فقد حدث ما يضطرني أن أكون في بيتي الآن، ففهم ما أريد وألح علي أن أنتظر في حجرة أخرى لحظات قليلة حتى تنظف المائدة، فأصررت وخرجت وكان صائبا ما فعلت، فلو جلست معهم لخرجت الشائعات بأني كنت أشرب مع الشاربين، وألهو مع اللاهين، ولسقط مركزي الديني ومركزي الخلقي ومركزي القضائي معا.
الفصل الثالث والعشرون
في فترة القضاء هذه مات أبي رحمه الله وأنا قاض في قويسنا عن نحو ثمانين عاما إثر عملية جراحية، فقد أصيب «بفتق» وهو في نحو الأربعين من عمره فلم يفكر في عملية يعملها، وظل يلبس الحزام الجلد يضغط به على موضع «الفتق» يخلعه مساء ويلبسه صباحا، ويعاني في ذلك مشقة كبيرة يتحملها في صبر. وكثيرا ما كانت تخر من الفتق بعض الأمعاء ويحاول إدخالها ولبس الحزام فيمتنع عليه ذلك فأسرع إلى الطبيب يعالجه، وكان هذا سببا كبيرا في ضيق خلقه والتنغيص عليه وعلينا - يضاف إلى ذلك ما أصيب به من إمساك مزمن، فكان إذا طال به الزمن ساء مزاجه وتلمس أي شيء يغضب عليه - ولعل بيتنا مدين لهذين السببين في التنغيص عليه من حين إلى حين، وما حرمه من ضحك ومرح وسرور. وما كان من معيشة انفصالية يميل فيها أبي إلى العزلة والانفراد بنفسه وآلامه - وطالت به هذه الأمراض من غير أن يعرض نفسه على طبيب اختصاصي، فلما كبرت عرضته على أكبر طبيب فقرر أنه كان يجب أن يعمل العملية وهو في فترة شبابه، أما وقد تقدمت به السن إلى هذا الحد فلا يحسن عملها. وأخيرا اشتد به الألم وضجر من حالته، فانتهز غيابي في قويسنا وذهب إلى طبيب جراح في المرتبة الثانية أو الثالثة، وكان تلميذا له قديما فحسن له العملية، وتجرأ فعملها من غير أن أعلم أو يعلم أحد في البيت. ولم أدر إلا وتلغراف يأتيني بقويسنا يحمل الخبر، ففزعت لذلك وحضرت إلى مصر وذهبت إلى العيادة وطمأنني الطبيب أن العملية ناجحة، ولكن لم يمض يوم حتى أصيب بالتهاب رئوي قضى عليه في ساعات ومات وأنا بجانبه يوصيني أمي وأختي ويدعو لي «أن يكون الله في عوني».
وبذلك انتهت حياة حافلة شاقة ملئت بالكد الدائب والسعي المتواصل في طلب العلم وطلب الرزق، فقل أن يفارقه كتاب يقرؤه أو يكتبه، ورزقه متصل بعلمه من درس يدرسه أو كتاب يصححه أو نحو ذلك، لا يمنعه عن ذلك مرضه أو كارثة نزلت به، متدين أشد التدين، يكثر من الصلاة ومن قراءة القرآن والحديث، ويزكي ويصرف زكاته على الفقراء من أقاربه، ويصوم ويحج ويتهجد بالليل ويبتهل إلى الله. وإذا صدرت منه سيئة أو ما يظنها سيئة أكثر من الندم والاستغفار والتوبة؛ زاهد عن السعي في طلب الرزق إلا بمقدار ما تحتاج إليه أسرته، فإن زاد شيئا فبقدر ما يدخره ليوم الحاجة - يكثر من ذكر الموت ويتبع ذلك بأحاديث يحفظها في تفاهة الدنيا وحقارة شأنها وهوانها على الله، وبنى مقبرة له يذهب إليها ويتلو عندها القرآن يرجو بذلك أن تكون منزلا مباركا له عند وفاته. يهزأ بالدنيا وزخرفها ومباهجها، رأيته مرة يلبس كسوة تشريف ليذهب إلى حفلة المحمل ثم يقف في الغرفة قليلا مترددا ثم يخلعها ويرميها بيده إلى أركان الغرفة ويقول: إنما الحياة الدنيا لهو ولعب وزينة، ويجلس بعد ذلك يتلو القرآن.
وهو في حيه محترم، إذ هو أكبر رجل ديني في الحي. يقوم له الناس إجلالا إذا مر عليهم، ويفزع إليه الأغنياء والفقراء في أمورهم الدينية وفي الفتيا في مسائل الزواج والطلاق والميراث، ويسأله أعيان الحي أن يقرأ لهم درسا دينيا في بيت من بيوت أحدهم، ويهدون له الهدايا الكثيرة في الأعياد والمواسم.
نامعلوم صفحہ