على كل حال بعد أن عرفت زوجي أخلاقي وعرفت أخلاقها وتكشفت لها ميولي وتكشف لي ميولها، حدثت المصالحة والتفاهم فتنازلت عن بعض رغباتها لرغباتي، وتنازلت عن بعض رغباتي لرغباتها، فكانت عيشة هادئة سعيدة نرعى فيها أكثر ما نرعى مصلحة الأولاد وخلق الجو الصالح لتربيتهم.
وأحيانا كان يعكر صفونا شيئان لعلهما لم يخل بيت منهما إلا في القليل النادر.
أحدهما مسألة الخدم، فالبيت لا يستغني عنهم ولا يرتاح بهم، وكانت مشكلتهم عندنا مزمنة وبخاصة في الخادمات. فزوجي غضوب، تريد أن تنفذ جميع أوامرها في دقة، والخادمة لا تعمل أو لا تستطيع أو تعاند فيكون الغضب، أو تريد أن تعاملها معاملة السيد للعبد، وتأبى هي إلا أن تعامل معاملة الند للند، أو تريد زوجي أن تكون الخادمة نظيفة والخادمة قذرة، أو مرتبة منظمة وهي لا تفهم ترتيبا ولا نظاما، وهكذا. كثيرا ما يكون للزوجة الحق وكثيرا ما يكون للخادمة الحق، فإذا تدخلت انقلب مركز النزاع من الخادمة إلي. وزوجي غيور، فهي لا تحب بطبيعتها أن يكون للخادمة أية مسحة من جمال، فإن كانت كذلك فالويل لها. والحديث يطول بيننا حول خادمة خرجت وخادمة جاءت وخادمة أساءت وخادمة سرقت. وأخيرا قررت إخلاء يدي من الخادمين والخادمات، وتركت لها مطلق الحرية أن تخرج من تشاء وتدخل من تشاء على شرط ألا تذكر لي شيئا من أخبارهم وأحوالهم.
والثاني مشكلة وسائل التفاهم، فقد كنت من غفلتي أعتقد أن العقل هو وحده الوسيلة الطبيعية للتفاهم، فإن حدثت مشكلة احتكمنا إليه وأدلى كل منا بحججه فإما أقتنع وإما أقنع وإما أصر، وإما أعدل ولكني بعد تجارب طويلة رأيت أن العقل أسخف وسيلة للتفاهم مع أكثر من رأيت من السيدات؛ فأنت تتكلم في الشرق وهن يتكلمن في الغرب. وأنت تتكلم في السماء فيتكلمن في الأرض، وأنت تأتي بالحجج التي تعتقد أنها تقنع أي معاند، وتلزم أي مخاصم، فإذا هي ولا قيمة لها عندهن. تقول: إن الأوفق أن نتصرف في الأمر بكذا لكذا من الأسباب، فترد عليك بأقوال متأثرة بعواطف ساذجة. وتقول: هذا التصرف لا يصلح لما يترتب عليه من أضرار تعينها، فترد عليك بأن العرف والعادة غير ذلك. وتعاقب ابنك لتؤدبه فتفسد العقوبة بتدخلها لمجرد العطف الكاذب. وتتصرف التصرفات الحكيمة فتئولها بنظراتها العاطفية تأويلات غريبة. وهكذا أدركت أن من الواجب ألا ألتزم المنطق، وأني إذا أردت الراحة والهدوء فلأضح بالمنطق أحيانا، وأتكلم الكلمة السخيفة إذا كان فيها الرضا، وألعب بالعواطف رغم المنطق إذا أردت السلامة.
وهكذا، كانت حياتنا كالبحر الهادئ، ولكن من حين لآخر تثور مشكلة من هذه المشاكل فيتكهرب الجو ويموج البحر ثم تنتهي العاصفة ويعود إلى البحر هدوؤه.
ولم تكن لنا مشكلة مالية مما تشقى به بعض العائلات، فقد وسع الله علي في الرزق، ولم يأت علي يوم اقتصرت فيه على مرتبي الحكومي، فعند تخرجي من مدرسة القضاء انتدبت مدرسا للأخلاق بمدارس الأوقاف الملكية بمرتب آخر؛ ولما عينت قاضيا في مصر انتدبت مدرسا بمدرسة القضاء، ثم در علي الرزق بما أربح من كتبي ومقالاتي؛ فمع ما يتطلبه الأولاد الكثيرون من نفقات كثيرة لم أشعر بحاجتي إلى الاستدانة ولا مرة، وإلى جانب ذلك فأنا رجل ليس لي كيف من الكيوف إلا الدخان، ثم معتدل الإنفاق، وأنا أميل إلى التبذير وزوجي أميل إلى التدبير، ولو ترك الأمر لي ما أبقيت على شيء، ولكن زوجي لكثرة الأولاد، وما يتطلبه ذلك من حساب المستقبل، احتاطت ودبرت وادخرت.
وكذلك حمانا الله من مشاكل أخرى أصيبت بها بعض الأسر لا داعي لذكرها لأنها لم تدخل في تجاربنا.
ورزقت بالولد الأول عقب زواجي، فأوليته كل عنايتي وطالعت من أجله بعض الكتب الإنجليزية والعربية في تربية الطفل، وكنت أشتري له اللعب الأجنبية الموضوعة للتسلية وتربية العقل، ولم أرتض له المدارس المصرية، فعلمته في المدارس الفرنسية - في الفرير - ثم حولته بعد السنة الثالثة الثانوية إلى مدرسة مصرية ليتقوى في اللغة العربية والإنجليزية، فلما نجح في البكالوريا، وكان ترتيبه متقدما يسمح له أن يكون في الطب أو الهندسة، اختار الهندسة.
وعنيت بالولد الأول أكبر عناية، علما بأنه سيكون نموذجا لإخوته، وقد كنت قاسيا على أولادي الأولين، شديد المراقبة لهم في دروسهم وأخلاقهم، أعاقبهم على انحرافهم ولو قليلا، ولا أسمح لهم بالحرية إلا في حدود؛ حسب عقليتي إذ ذاك، ولكنها على كل حال قسوة لا تقاس بجانب قسوة أبي علي؛ وكلما تقدمت في السن واتسع تفكيري أقللت من تدخلي وأكثرت من القدر الذي يستمتعون فيه بحريتهم، فلم أجد كبير فرق بين الأولين والآخرين لشدة تأثر من لحق بمن سبق.
وما أكثر ما لقيت من متاعب الأولاد في صحتهم وفي دراستهم وفي سلوكهم، وكان لكل سن متاعبها، فأكثر متاعب الطفولة في الصحة والمرض، وأكثر متاعب المراهقة في الدراسة والسلوك، وأكثر متاعب الشباب في طرق الوقاية والمهارة في الإشراف من بعيد، وكثيرا ما كان عندي الأسنان كلها أحمل متاعبها المتنوعة جميعها. وأحمد الله فقد نجحت في تحمل أعبائهم، وحسن توجيههم إلى حد كبير: فالآن وأنا أكتب هذا زوجت بنتي زواجا يعد بقدر الإمكان سعيدا، وأتم ثلاثة دراسة الهندسة والرابع في طريق إتمامها، ولما ضقت ذرعا بالهندسة وكرهت سماع النغمة الواحدة تدخلت في الأمر بعد أن كنت أترك لهم الاختيار، فوجهت الخامس لدراسة الحقوق، وحاولت أن أوجه السادس للطب وقد كان أول البكالوريا في القطر فلم أفلح.
نامعلوم صفحہ