تتلخص في أن طفلا ربي في قصر كبير له حديقة واسعة ولم ير الدنيا خارج القصر ولم يعلم عنها شيئا حتى شب، ثم رأى الدنيا خارج القصر دفعة واحدة من غير تدرج. ثم تصف القصة أثر مناظر الدنيا فيه عندما رآها وهو مكتمل العقل، وكيف تختلف عن أثرها في الصبي قد رآها تدريجا وهو قاصر العقل إلخ»... واليوم قرأت رواية لديكنز بديعة لطيفة ميزتها كذا وهو يرمي بها إلى كذا، واليوم قرأت مجلة مضحكة، وللإنجليز طابع في النكت والنوادر غير الطابع المصري، فأكثر نكتهم ملفوف، مبني على الذكاء، والقليل منهم يعتمد على اللعب بالألفاظ؛ ومن خير النكت التي قرأتها اليوم كذا ثم يفيض فيما قرأ منها ونضحك ونضحك ونتبعها أحيانا بالنقد والاستحسان، وكان خفيف الروح في الإلقاء فيعجبنا بنكته ويعجبنا بقصه - ثم كانت له مغامرات شبابية يخصني بذكرها والحديث عنها وألمه منها واستمتاعه بها.
وهذا الآخر هوايته التاريخ، يطيل القراءة فيه ويفتن بأسلوب الأوروبيين في كتابتهم وقدرتهم على التحليل الدقيق ورجوع الجزئيات إلى كلياتها وحريتهم في تقدير الأبطال والاعتداد بشخصيتهم، فقد يهدم بعضهم بطلا أجمع الناس على بطولته، أو يشيد بذكر مغمور أجمع الناس على خموله، وينقد كتابة التاريخ عند العرب، فقد أحسنوا في رواية الأحداث ولم يحسنوا فلسفتها إلا ما كان من ابن خلدون فقد أحسن في فلسفة التاريخ وقصر في تطبيقها على الأحداث، ثم هو يحاول أن يطبق هذا المذهب فيعرض علينا نمطا من بحثه في عمر وعلي - مثلا - على نمط جديد فيه التقدير وفيه النقد.
وهذا عالم تخصص في الطبيعة والكيمياء وجعل مسلاته الأدب، فهو يقرأ في ديوان أبي الطيب وأبي فراس ويتخير من شعرهما ويحفظه وينشده، وتلتهب عاطفته فيحاول أن يقول شعرا بعضه لا بأس به. وهو فكه النفس لطيف المحضر تأنس لقربه وتستوحش لبعده ، يتحدث فيودع قلبه حديثه. وهذا عالم آخر طبيعي كيماوي أيضا جل علمه ونفسه وكل ما يملكه من ملكات وثقافات لخدمة دينه: أثر في كثير من الطلبة في مدرسته العالية فدينهم، وملأ المساجد به وبهم، قد حفظ القرآن وأطال قراءته وبذل جهدا في فهمه، فهو يفهمه كما يقول المفسرون ويزيد عليهم ما يفهمه من نظريات الطبيعيين والكيماويين وما يقتبسه من أقوال المتدينين من العلماء الأوروبيين، يحلو له الكلام في الدين وهداية الضالين، ويعز عليه أن يسمع إلحادا أو كلمة يشتم منها إلحاد بل لا يسمح أن ينقد أحد أمرا من أمور الدين، ولو كان في التفاصيل، وهو في كل ذلك مخلص لا يقول كلمة بلسانه ينكرها قلبه، قوي الحجة طويل النفس في المناظرة مؤثر إذا قال، جزل الأسلوب إذا كتب. يدرس الكيمياء والطبيعة فتكون دينا؛ ويشرح النظرية الكيماوية فتكون من سنن الله الكونية، يتحرج صحبه أن يذكروا أمامه شيئا يمس شعوره الديني وعاطفته المسلمة، ويهابونه في طربوشه أكثر مما يهابونني في عمتي.
وهذا عالم في الرياضة ولكنه لا يقل ثقافة أدبية عن المختصين في الثقافة الأدبية يقرأ في الأغاني والعقد الفريد كما أقرأ ويتذوقها وينقدها، ويقرأ الكتب الكثيرة في الثقافة العامة الإنجليزية في الأخلاق والاجتماع وعلم النفس، ويتأثر بما يقرأ إلى حد كبير، ويقتنع بما يقرأ ويتحمس له، ويأتي ويحدثنا بخلاصة ما قرأ وما فكر فيما قرأ، وله أسلوب لطيف ساخر جامح في نقد ما يرى وما يسمع تطبيقا لنظرياته التي اعتنقها من قراءاته، ولا بأس أن يغلو في الهدم، ولا بأس أن يغلو اليوم في عكس ما غلا فيه بالأمس، وهذا مما يطول شرحه.
كل أولئك كانوا مدرسة لطيفة لي، مدرسة خلت من عبوس الجد وثقل المدرس وسماجة تحديد الموضوع والزمان والمكان، ونعمت بالبعد عن الامتحان وصداع الجرس، مدرسة فيها الجد والفكاهة، والعلم والأدب، والدين والشعر، والتقريظ والنقد، مدرسة يكون فيها التلميذ أستاذا تلميذا، وإن شئت فقل إن كل من فيها أستاذ تلميذ، مدرسة فيها حرية القول وحرية السماع وحرية الموضوع وحرية كل شيء. تقارب فيها سن الأساتذة والتلاميذ فتجانست مشاعرهم، وتشابهت آمالهم ومطامحهم، وتفتحت نفوسهم للاستفادة من تنوع مواهبهم.
وكان لهذه المدرسة التفاتة لطيفة إلى تقويم البدن كتقويم النفس، والعناية به كالعناية بالعقل؛ فما بالنا نقضي نهارنا في المدرسة ندرس، وعصرنا في القهوة نجلس جلسة الكسالى العجائز نتحدث، وليلنا على المكتب نحضر أين الهواء الطلق؟ أين جمال الطبيعة؟ أين الرياضة البدنية؟ أين الرحلات؟ إن كل هذه تجدد النفس وتنعش الروح وتبعد العجز، وتخدم العقل كما تخدم الجسم، تغذي الروح كما تغذي البدن.
إذن فلنشترك في ناد من نوادي الألعاب الرياضية، ولننظم رحلات أسبوعية، ولأحقق أنا بعض ما كانت تقوله لي المدرسة الإنجليزية «تذكر أنك شاب».
وذهبنا إلى نادي الألعاب الرياضية بالجزيرة واشتركنا فيه، وكانت عمتي أول عمامة اشتركت في النادي، وربما كانت آخرها أيضا. وأخذت خزانة فيه ككل عضو، أضع فيها «الفانيلا والشورت والجزمة الكاوتش»، فإذا حضرت خلعت عمامتي وجبتي وقفطاني ولبست الشورت وما إليه وتسابقت في العدو مع العدائين، ولعبت كرة القدم والعقلة مع اللاعبين، حتى إذا تعبنا جلسنا على الحشيش في الهواء الطلق نتحدث ونضحك. وقد كنت أول الأمر ألهث إذا جريت، وأخفق إذا لعبت، ثم استقام أمري، وإن لم أبلغ في خفة الحركة مبلغ صحبي، لأني أحمل من أوزار تربيتي الأولى ما لا يحملون. فإذا فرغنا من ذلك كله ذهبنا إلى خزائننا وخلعت «الشورت» ولبست الجبة والقفطان والعمامة وخرجت من النادي شيخا وقورا.
ويوم الجمعة أحيانا كنا نخرج إلى رحلة في جبل المقطم في الشتاء، فيوما إلى الغابة المتحجرة، ويوما إلى وادي دجلة أو وادي حوف في نواحي حلوان، ويوما إلى العين الساخنة وهكذا. وكانت رحلات قاسية وقائدنا فيها عنيف لا يرحم. وكم قلت له: «رفقا بالقوارير»، وهو لا يسمع، فكنا نمشي في الوديان ونتسلق الجبال من طلوع الشمس إلى غروبها. نحمل معنا غداءنا وشرابنا على ظهرنا ونسير سيرا حثيثا لا نستريح إلا ساعة نأخذ فيها غداءنا ثم نسير سيرتنا وأعود إلى البيت مضنى متعبا ، ثم أنام ملء جفوني، وأعرج بعدها في مشيتي ثلاثة أيام أو أربعة. ولكني أحس صفاء نفسي وصفاء رأسي. وكنت في هذه الرحلات كشأني في الألعاب. أخيب عضو في الأولى وأبطأ عضو في الثانية: لست أنسى يوما عصيبا ذهبت فيه مع صحبي إلى وادي حوف فلما بدأنا في العودة تخرق نعل جزمتي فسددتها بورق مقوى كنا أحضرنا فيه بعض الفطائر والحلوى، فلم يفد ذلك إلا قليلا، ثم برزت رجلي وسرت على الحصى، ودميت أصابعي، وأبطأ القوم في سيرهم ورثوا لحالي، وأخيرا وأخيرا جدا عثرت على حمار قبل مدخل حلوان، وطلبت من صاحبه أن يحملني إلى المحطة بأي أجر شاء، ودخلت حلوان على حمار وحولي الحواريون يمتزج شعورهم نحوي بالضحك مني والرثاء لي.
وتحررت بعض الشيء، فكنا نذهب أحيانا إلى صالة «منيرة المهدية» لسماع غنائها ومشاهدة رواياتها، وكنت أتأثر من بعض نغماتها أثرا يرن في أذني طول الأسبوع.
نامعلوم صفحہ