كنا نجلس قبل الدروس نحضرها فيوضح لي صاحبي بعض ما غمض من الرموز والعبارات، فأستطيع أن أتابع الشيوخ فيما يقولون إلى حد ما.
ومرة جاء صاحبي هذا وفي يده جريدة «المؤيد» وأطلعني على إعلان بحاجة «الجمعية الخيرية الإسلامية» إلى مدرسين للغة العربية بمدارسها، وكيفية تقديم الطلبات وموعد الامتحان، وأن من وقع عليه الاختيار عين مدرسا في إحدى مدارس الجمعية بثلاثة جنيهات في الشهر، وأغراني بتقديم الطلب فتقدمت وبحضور الامتحان فامتحنت.
وكانت لجنة الامتحان مؤلفة من ثلاثة من كبار رجال التعليم في وزارة المعارف.
نودي على اسمي فتقدمت مضطربا متخوفا، وكان هذا أول امتحان من هذا القبيل شهدته، فأعطى لي كتاب «أدب الدنيا والدين» فتحت منه صفحة حيثما اتفق فقرأت فيها وهم يسألونني: لم رفعت هذه ونصبت هذه وجرت هذه. ثم طلب إلي أن أقف أمام السبورة، وكان اسمها في أيامنا «التختة» وأملي على هذا البيت:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وطلب إلى أن أفسره ففسرته، وأخطأت في تفسير تزود فقلت إن معناه «تعطي الكثير»، ثم طلب إلي أن أعربه فأعربته، وأن أخاطب بالبيت مفردا ومثنى وجمعا؛ مذكرا ومؤنثا ففعلت، وبذلك انتهى الامتحان، ثم أعلنت النتيجة فكنت الثالث وهم يحتاجون إلى أربعة، ودعينا نحن الأربعة لمقابلة الرئيس المشرف على التعليم في الجمعية الخيرية الإسلامية وهو حسن باشا عاصم، وعلمت فيما بعد أنه رجل من عظماء مصر اشتهر بمتانة الخلق والحزم والتشدد في الحق والتزام العدل مهما كانت الظروف، كان رئيسا للقلم العربي في السراي أيام الخديوي عباس فأراد الخديوي أن يستبدل أطيانا يملكها بأطيان للوقف، فوقف هو والشيخ محمد عبده في ذلك، إذ كانا عضوين في مجلس الأوقاف الأعلى، وقال إن في هذا الاستبدال غبنا على الأوقاف، فأخرجه الخديوي من وظيفته، فتبرع حسن باشا عاصم بالإشراف على التعليم في الجمعية الخيرية. يقضي في ذلك أكثر أوقاته، فيرقي التعليم ويشترك في وضع المناهج ويطبق العدل في شدة، حتى لقد حدث مرة أن تبرع أحد أعيان المحلة الكبرى بأرض لبناء مدرسة الجمعية ونفقات بنائها ووقف عليها من أملاكه، ثم أراد أن يدخل ابنه في المدرسة وكانت سنه تزيد شهرا عن السن المقررة، فأبى عاصم باشا قبوله قائلا: لقد تبرع هذا الرجل للجمعية فوجب شكره، ولكنه أراد بعد أن يخرق قوانين فوجب صده؛ وأصر على إبائه على الرغم من إلحاح رجالات الجمعية مثل الشيخ محمد عبده وحسن باشا عبد الرازق في قبوله، فلما ألحوا عليه قدم استقالته فاضطروا للنزول على رأيه. وهكذا كان يسير على هذا النمط فيما يعهد إليه من أعمال، وهو نمط من الناس غريب في الشرق المملوء بالمجاملات وقبول الرجاء مهما خالف العدل وخالف القانون. وكان من حسن حظي أن رأيته بعد ذلك عضوا في مجلس إدارة مدرسة القضاء، وعلمت أنه نشر العدل في المدرسة، وعلمه بقية الأعضاء.
وقفنا في قبة الغوري ننتظره فطلع علينا رجل مهيب يملأ القلب أكثر مما يملأ العين، له وجه أسمر وسحنة صعيدية أسيوطية وعينان نفاذتان، وجسم صغير. وواجهنا وأرسل إلينا نظرات فاحصة. وسأل كلا منا أسئلة في المعلومات العامة ثم استبعد الرابع لقصره وقماءته، وأعلننا أن الأول سيعين في مدرسة القاهرة، والثاني في الإسكندرية والثالث الذي هو أنا في طنطا.
لم يكن أبي يعلم شيئا من ذلك فلما أخبرته تحير واضطرب، وما كان الأمر يحتاج إلى حيرة واضطراب، فالأمر سهل ورفض الوظيفة واجب، ولكن عذره أن مستقبل الطالب في الأزهر مظلم، وأخيرا قبل سفري إلى طنطا.
لو سمع شاب اليوم وسنه ستة عشر عاما كسني أنه سيسافر إلى سنغافورة أو طوكيو أو الملايا ما حمل الهم الذي حملت من أجل سفري إلى طنطا. فلم أركب في عمري، ولا رأيت الأهرام، ودنياي هي ما بين بيتي والأزهر.
نامعلوم صفحہ