حیات و حرکت فکریہ فی برطانیہ
الحياة والحركة الفكرية في بريطانيا
اصناف
وقد وجهت إلى نظام الأحزاب مطاعن كثيرة بسبب ما شوهد في بعض البلاد من كثرتها، واتجاهها أحيانا إلى خدمة مصالحها الخاصة، وتغليب الاعتبارات الحزبية على الاعتبارات القومية، على أن هذا الانتقاد إذا صح في بلد لم يفهم معاني الديمقراطية الصحيحة تتغلب فيه مصالح الأحزاب على مصالح الوطن، فإنه لا يؤخذ حجة ضد ضرورة الأحزاب، فهي المدارس العملية التي يتخرج منها الساسة وتظهر ملكاتهم ومواهبهم السياسية، وهي التي تنمي الصفات الخاصة التي يجب أن تتوافر في الرجال الذين يطمحون إلى تولي الأعمال العامة، وهي التي تبث روح المنافسة في استنباط المشاريع العامة لخدمة الدولة، كذلك لا ريب في أن وجود حزب معارض من شأنه دائما أن يمنع تعسف الحزب الذي يتولى الحكم، فيرده إلى الاعتدال ورعاية المصلحة القومية.
وهذه الأسباب التي تبرر ضرورة وجود الأحزاب لضمان استقامة سير الحكم النيابي ونجاحه هي نفسها التي تحدد الأغراض الداعية إلى تأليفها، فيجب أن تؤلف الأحزاب لتنفيذ أغراض سياسية واضحة، ولخدمة مصالح الأمة وفقا لبرامج مفصلة.
والأحزاب السياسية الإنجليزية الثلاثة هي وليدة الحوادث والتطورات السياسية والاجتماعية، ولكل منها مبادؤه السياسية الراسخة، وبرامجه المفصلة، وتحفزها جميعا إلى العمل اعتبارات قومية قبل كل شيء، وجميعها يحرص أشد الحرص على تدعيم الحياة النيابية، وهي في كفاحها السياسي مثل للنزاهة والاعتدال، فكل حزب يرى من الطبيعي أن يسعى الحزب الآخر مثله لتحقيق أغراضه، وأن من حقه أن يعتنق الرأي الذي يراه، وأن يختار الوسائل التي يفضلها لتنفيذ برنامجه، وهذا يفسر لنا خلو الكفاح السياسي أو الاجتماعي في إنكلترا من مرارة الأحقاد والضغائن التي تشوب الحياة الحزبية في بعض البلاد الأخرى، وقد يكون هذا الكفاح أحيانا في منتهى الشدة والعنف، ولكن الإنجليز يعتبرونه كفاحا من خصوم يتمتعون بحقوق متماثلة.
كذلك لا تعرف الحياة الحزبية في إنكلترا تلك التقلبات السريعة التي تحدث غالبا في الأحزاب التي تنشأ لضرورة وقتية، أو لتحقيق مصالح خاصة، ومن النادر أن نرى عضوا في حزب ينتقل بسرعة إلى حزب آخر، وإذا انفصل عضو من حزبه، فإنه يفعل ذلك بعد ترو واقتناع بصواب عمله.
ومن حسن حظ الحياة النيابية في إنكلترا أنها لم تعرف فوضى الحزبية، ولا تعدد الأحزاب بصورة تعرقل سير الحكم الدستوري، أو تصدع من قوته ومتانته، فإنكلترا لم تعرف في تاريخها الدستوري الطويل سوى حزبين سياسيين كبيرين هما حزب المحافظين وحزب الأحرار، وقام بها منذ بداية هذا القرن حزب جديد هو حزب العمال، وأخذ ينمو باضطراد حتى استطاع أن يأخذ مكان حزب الأحرار الذي تولاه الوهن والضعف، وقد استمدت الأحزاب الإنجليزية قوتها من وضوح مبادئها وجلاء برامجها خصوصا فيما يتعلق بسياسة البلاد الداخلية، ومن إخلاص الأعضاء للمبادئ التي يعتنقونها، وثباتهم باستمرار في الدفاع عنها، وكان الحكم يقع بالتناوب، تارة للمحافظين وتارة للأحرار، وفي العهد الأخير تارة للمحافظين وتارة للعمال وفق نتيجة الانتخابات، وقد ترتب على ذلك أن أكثر الحكومات التي تكونت في بريطانيا منذ بداية القرن التاسع عشر كانت حكومات قوية، تستمد قوتها من تماسك أعضائها وتجانسهم لتشكيلها عادة من حزب واحد، وثبات الأكثرية البرلمانية على تأييدها مدة طويلة لا تقل عادة عن حياة البرلمان الذي رفعها إلى الحكم، وليس أدل على ثبات الحكومات في إنكلترا من أنه منذ سنة 1815 إلى سنة 1914 - أي: في ظرف مائة سنة تولى وزارة الخارجية سبعة عشر وزيرا، وتولى وظيفة وكيل الخارجية الدائم فيها ثمانية وكلاء، وأنه منذ قام نظام الوزارات الإنجليزية في عهد «والبول» إلى وزارة «ماكدونالد» سنة 1930 أي: في ظرف نحو مائتي عام - تولى الوزارة تسعة وثلاثون رئيسا أي: بمعدل خمسة أعوام ونصف لكل رئيس، وهذا بخلاف البلاد التي أصيبت بكثرة الأحزاب كأغلب بلاد القارة الأوروبية؛ حتى أصبح تأليف وزارة متماسكة متحدة تعيش مدة معقولة من أصعب الأمور.
فقد تولى الحكم في فرنسا من يناير 1933 إلى يناير 1934 أي: في سنة واحدة ثماني وزارات مختلفة، ومعدل حياة الوزارة الفرنسية في الستين سنة الأخيرة سبعة شهور لكل وزارة؛ لذلك فقد قضت حكمة الإنجليز وتقاليدهم من قديم الزمان أن لا يسمح - كما قدمنا - في إنكلترا لأكثر من حزبين قويين بالبقاء والنمو؛ ولهذا فقد عاشت إنجلترا أولا بحزبي المحافظين والأحرار، ثم اقتضت ضرورات التطور الاجتماعي أن يقوم حزب العمال، فنما هذا الحزب ولكن على حساب حزب الأحرار الذي أخذ نفوذه يتضاءل؛ حتى قضي عليه في النهاية.
هذا الرسوخ الحزبي، وهذا التجانس في تأليف الوزارة الإنجليزية، وهذه الأغلبية البرلمانية الكبيرة التي تتمتع بها كل وزارة طوال بقائها في الحكم هي السر فيما يتمتع به رئيس الوزارة الإنجليزية من قوة ونفوذ عظيمين، وهذه القوة العظيمة لرئيس الوزارة في إنجلترا هي أهم الضوابط التي لا تقوم بغيرها الحكومة الديمقراطية البرلمانية، فهي تستلزم دائما سلطة تنفيذية قوية؛ لمنع تيار الفوضى والطغيان، فإذا أريد لهذا النوع من الحكم أن يعيش طويلا، وأن يكون في الوقت نفسه وسيلة للتقدم والارتقاء في ظل القانون والنظام وجب تقوية السلطة التنفيذية، وتبدو قوة مركز رئيس الوزارة الإنجليزية في أنه هو الوحيد الذي يمثل الحكومة أمام البرلمان وأمام العرش وأمام الرأي العام، فهو يتمتع في الواقع بنوع من السلطة الدكتاتورية، وأساس هذه السلطة الممتازة أنه مختار لوظيفته من الشعب كله، وقد انتخبه الشعب لهذا المركز السامي بناء على برنامج مقرر واضح هو واضعه، وهو المسئول شخصيا أمام الشعب في تنفيذه.
وقد وصف السير ماريوث في كتابه عن الأنظمة السياسية الإنجليزية مركز رئيس الوزارة البريطانية بأنه أقوى من مركز إمبراطور ألمانيا قبل الحرب أو رئيس الولايات المتحدة الآن؛ لأنه يمكنه أن يغير القانون، ويفرض الضرائب ويلغيها، كما أنه قادر على تحريك جميع قوى الدولة، وذلك بشرط واحد، هو أن يحتفظ رئيس الوزارة بثقة وتأييد الأكثرية في مجلس العموم.
وقد اتجهت سياسة البرلمان الإنجليزي في السنين الأخيرة نظرا لكثرة أعمالها وتشعبها، وتعقدها إلى النزول عن جزء من سلطته التشريعية إلى الوزارة، وهو ما يسمى «بالسلطات المفوضة»، وذلك بتخويلها حق التشريع لمدة معينة، ولأغراض معينة يحددها مجلس العموم، ويقع هذا التفويض عادة في بعض الأحوال التي تستدعي السرعة، وفي المسائل الفنية، والموضوعات التي تحال إلى الخبراء، كما يقع عند الطوارئ، وقد استعملت الوزارة الإنجليزية هذا الحق في أحوال كثيرة قبل الحرب الحاضرة، وهي تستعملها الآن خلال هذه الحرب بأوسع صورة، فقد فوض المجلس إلى الوزارة سلطات واسعة لمعالجة المسائل المتعلقة بسير الحرب، وتصدر الوزارة البريطانية بمقتضى هذا التفويض جميع التشريعات اللازمة لإدارة دفة الحرب في الداخل وفي الخارج دون عرضها على البرلمان، على أنها تسير في تشريعها دائما طبق رغبات المجلس، وللمجلس في جميع الأحوال أن يعدل أي تشريع تصدره الوزارة على هذه الصورة.
ويحسن أن نشير في النهاية إلى نظرية فصل السلطات، وهي النظرية التي نوه بأهميتها من قبل كثير من كتاب الفقه الدستوري؛ مثل مونتسكو وغيره، واعتبرت أساسا من أسس الدستور الإنجليزي، ثم نسج على منوالها في الدساتير الأخرى، لا تنطبق في الواقع على الدستور الإنجليزي كل الانطباق، فليس البرلمان هو السلطة التشريعية فحسب، بل هو الرقيب الأعلى على السلطة التنفيذية التي يجب أن تتخلى عن الحكم إذا فقدت ثقته، والوزارة البريطانية تملك حق التشريع بمقتضى السلطات المفوضة كما قدمنا، وأما القضاء فلا ريب في استقلاله عن السلطة التنفيذية، وقد ثبت استقلال القضاء بقانون صدر منذ سنة 1701، ولكن هذا القانون قانون عادي يملك البرلمان تغييره كما يملك الآن إقالة أي قاض من القضاة، ولو أنه لم يستعمل هذا الحق حتى الآن، كذلك يستطيع البرلمان أن يصدر قوانين مخالفة لأحكام المحاكم، وهو ما يحدث دائما كلما رأى البرلمان أن أحكام المحاكم في مسألة من المسائل لا تتفق مع رغبات الرأي العام في البلاد؛ فقد حدث مثلا في سنة 1906 أن حكم القضاء بعدم مشروعية نقابات العمال، ولم ترض أكثرية البرلمان والرأي العام عن هذا الحكم، فاضطرت الحكومة إلى إصدار قانون يمنع تطبيق هذا الحكم في المستقبل.
نامعلوم صفحہ