ولكن بحلول يوم الجنازة، كانت أمور كثيرة قد تغيرت، فقد استعادت أمي الثقة واستعدت أنا هدوئي، ولم أعد أرغب في سماع المزيد عن العم كريج أو عن الموت، وأخرجت أمي فستاني الأسود ذا النسيج مربع النقش من كرة النفتلين، ونفضت الغبار عنه، ووضعته على حبل الغسيل كي يتعرض للهواء. «إنه مناسب للصيف، فهذا الصوف الخفيف أفضل من القطن. وعلى أية حال، فهذا هو الفستان الوحيد داكن اللون الذي تملكينه، ولكنني لا أهتم، فلو كان الأمر بيدي كنت سأسمح لك بارتداء اللون القرمزي، وإذا كانوا يؤمنون بالمسيحية حقا لكان هذا ما يرتدونه كلهم، وكانوا سيقضون وقتهم في الرقص والابتهاج، فهم في نهاية المطاف يقضون حياتهم بأكملها في الغناء والابتهال للخروج من هذا العالم والذهاب في طريقهم إلى السماء. ولكنني أعلم عماتك جيدا، فسوف تتوقعان ملابس داكنة اللون، تقليدية حتى النخاع!»
لم تتفاجأ أمي عندما سمعت أنني لا أرغب في الذهاب.
وقالت بصراحة: «لا أحد يرغب في الذهاب، لا أحد يرغب في ذلك على الإطلاق، ولكنك مضطرة لذلك. عليك أن تتعلمي مواجهة الأمور أحيانا.»
لم أحب الطريقة التي قالت بها ذلك؛ فقد كان حماسها وحيويتها زائفين مبتذلين، ولم أستطع الوثوق بها، فدائما عندما يخبرك الآخرون بأن عليك مواجهة ذلك الأمر أحيانا؛ عندما يسرعون بك بصورة واقعية تجاه أي نوع من الألم أو الأعمال المشينة أو الاكتشافات البغيضة، تلمح في أصواتهم نبرة الخيانة؛ ذلك الابتهاج البارد المتخفي الذي لا ينجحون في إخفائه تماما، شيئا يتوق لإيلامك. نعم وفي حالة الوالدين أيضا، بل في حالة الوالدين تحديدا.
تابعت أمي قائلة، بمرح لا يخلو من نبرة تنذر بشؤم: «ما الموت؟ وماذا يعني أن يموت المرء؟» «أولا، ما الإنسان؟ هو عبارة عن نسبة كبيرة من الماء، مجرد ماء نقي. فلا شيء مميز في الإنسان. أهي مادة الكربون التي تعد أبسط العناصر، وما قيمتها؟ ثمانية وتسعون سنتا؟ هذا كل شيء. ولكن الشيء المميز حقا هو طريقة تركيب تلك العناصر مع بعضها. الطريقة التي يتركب بها جسم الإنسان، لدينا القلب والرئتان، لدينا الكبد والبنكرياس والمعدة والمخ. كل تلك الأشياء، ما هي؟ إنها تركيبات من العناصر! وعند تركيبها، تركيب جميع المكونات نحصل على إنسان! ونطلق عليه العم كريج أو والدك أو أنا، ولكنه في نهاية المطاف ليس إلا تلك «التركيبات»، تلك الأجزاء توضع معا وتعمل بطريقة معينة في الوقت الحالي. وما يحدث بعد ذلك أن أحد الأعضاء يتعطل أو ينهار، وفي حالة العم كريج، فهو القلب، وهكذا نقول إن: العم كريج قد مات، ذلك الشخص أصبح ميتا. ولكن هذه هي فقط طريقتنا للنظر إلى الأمر، تلك هي طريقتنا البشرية فحسب. فإذا لم نكن نفكر طوال الوقت في الأشخاص، وكنا نفكر في الطبيعة، فسنجد أن الطبيعة مستمرة من حولنا وأن أجزاء منها تموت؛ حسنا لا أعني أنها تموت، بل تتغير - هذه هي الكلمة التي أبحث عنها - تتغير إلى شيء آخر. فكل تلك العناصر التي يتكون منها الشخص تتغير وتعود إلى الطبيعة مرة أخرى، ثم تظهر من جديد على هيئة الطيور والحيوانات والزهور، فالعم كريج ليس بالضرورة أن يكون العم كريج! بل هو أزهار!»
فقلت: «سوف أصاب بالغثيان من الركوب في السيارة، وسوف أتقيأ.»
فقالت والدتي - التي كانت ترتدي ملابسها الداخلية وتضع العطر على ذراعيها المكشوفتين: «كلا لن تفعلي.» ثم جذبت فستانها الأزرق الداكن المصنوع من قماش الكريب، وأدخلت جسدها فيه عبر رأسها، وتابعت: «تعالي أغلقي لي الأزرار. يا له من فستان أرتديه في هذا الجو الحار! يمكنني أن أشم رائحة المنظفات عليه، فالحرارة تطلق تلك الرائحة. دعيني أخبرك عن مقال كنت أقرؤه قبل أسبوعين، فهو يتناسب تماما مع ما أقوله الآن.»
دخلت إلى غرفتها وأحضرت قبعتها التي ارتدتها أمام مرآة مكتبي الصغيرة، وهي تجمع خصلات شعرها الأمامية تحتها على عجل، وتترك بعض خصلات الشعر الخلفية تتدلى من الخلف. كانت قبعة صغيرة مستديرة ذات لون قبيح كان رائجا خلال الحرب، وهو اللون الأزرق الخاص بالقوات الجوية.
واستأنفت حديثها: «يتكون الناس من أعضاء، وعندما يموت شخص - كما نقول نحن - يكون عضو واحد فقط، أو اثنان، هو ما تلف، وبعض الأجزاء الأخرى قد تعمل لمدة ثلاثين أو أربعين عاما أخرى. فالعم كريج - على سبيل المثال - قد يكون لديه كلى سليمة تماما يمكن لشاب مريض بالكلى أن يستخدمها، وهذا المقال يؤكد أن تلك الأجزاء سوف تستخدم يوما ما! هذا هو كل ما في الأمر. تعالي إلى الطابق السفلي.»
تبعتها للأسفل نحو المطبخ، وبدأت هي تضع أحمر الشفاه أمام المرآة المعتمة المعلقة فوق حوض المطبخ. كانت أمي تحتفظ - لسبب ما - بمستحضرات التجميل هناك، على رف قصديري لزج فوق الحوض وتتركها تختلط مع زجاجات أقراص الدواء القديمة الداكنة، وشفرات أمواس الحلاقة، ومسحوق تنظيف الأسنان، والفازلين، وجميعها بلا أغطية. «نقل الأعضاء! على سبيل المثال: العينين. لقد أصبح نقل العينين ممكنا بالفعل، ليس العين بأكملها بل القرنية حسبما أعتقد، وهذه مجرد بداية. يوما ما سيصبح من الممكن نقل القلب والرئة وكل الأعضاء التي يحتاجها الجسد، حتى المخ، وإنني أتساءل: هل سيصبح من الممكن يوما ما نقل «المخ»؟ وهكذا فلن تموت تلك الأعضاء أبدا، بل ستحيا ولكن في جسد شخص آخر، جزءا في تركيبة أخرى. وهكذا فلن يعود بإمكاننا الحديث عن الموت تماما على الإطلاق. وكان عنوان ذاك المقال هو «ورثة الجسد الحي»، فسوف نصبح جميعنا ورثة بعضنا لأجساد البعض، وسنصبح جميعا متبرعين أيضا. أما الموت نفسه كما نعرفه الآن، فسوف نتخلص منه.»
نامعلوم صفحہ