وانتهت هذه المعركة الصغيرة ولم تسفر عن أشلاء، ولكني أحسب أن الرافعي نفسه لم يكن مقتنعا بما كتب في الرد على العقاد، فبقي في نفسه شيء يحمسه إلى معركة جديدة، فلم يلبث إلا قليلا ثم كانت المعركة الفاصلة ...
وحي الأربعين
وكانت هدنة استمرت بضعة أشهر، ثم أصدر العقاد ديوانه «وحي الأربعين»، ومضى أسبوع أو أسابيع بعد صدور الديوان، ثم كان عيد من الأعياد، فغدوت على بيت الرافعي لأهنئه، ثم خرجنا نطوف ببيوت بعض الأصدقاء، حتى انتهى بنا الطواف إلى دار صديقنا الأديب الأستاذ حسنين مخلوف، والأستاذ مخلوف أديب مطلع، لا يفوته كتاب مما تخرج المطبعة العربية، فلم يكن ثمة بد من الحديث في الأدب، وفي الشعر وفي المطبوعات الجديدة، وهو حديث يحلو للرافعي ويحلو لمخلوف، ولو استغرق هذا الحديث سحابة يوم العيد من الضحى إلى العصر، والبطن خاو يطلب الطعام ، ورائحة الشواء تفوح في بيت المضيف وفي بيوت الجيران!
وسأل الرافعي مضيفه: «ماذا عندك من الجديد في الكتب؟»
وضحك مخلوف وهو يغمز بعينه ويقول: «وحي الأربعين!»
ووجد الرافعي طلبته، فدعا بالديوان الذي يود أن يقرأه منذ أيام ويمنعه من شرائه أنه كتاب العقاد! ...
وجاء الديوان فوضعه الرافعي بين يديه وقال: «لست أريد أن أتجنى على العقاد الشاعر أو أحكم في ديوانه برأي قبل أن تتهيأ لي أسبابه، وإني لأخشى أن أفتح الكتاب فتقع عيني أول ما تقع على أردإ ما فيه فأحكم على الديوان ببعضه، وقد يكون فيه الجيد، وما هو أجود، وما تتقاصر أعناق شعراء العربية دون الوصول إليه، وإن بيني وبين العقاد لسابق عداوة، وأنتما بريئان من التهمة وسوء الظن، فهاكما الديوان فقلبا فيه النظر، وتداولا فيه الرأي، ثم دلاني على أجود ما فيه لنقرأه معا فنحكم له أو عليه مجتمعين، ثم يكون ما اتفقنا عليه من الرأي في هذا الجيد المختار هو الرأي في الديوان كله، من غير أن يتغلب الهوى أو تتحكم الشهوة ...!»
ورضينا رأي الرافعي، فأخذنا الديوان نقلبه صفحة صفحة، ونقرؤه بيتا بيتا، والرافعي منصرف عنا إلى كتاب بين يديه ... ومضت فترة، واستبطأنا الرافعي فيما دعانا إليه، فقال: أحسبكما لم تجدا ما تطلبان! ولن تجدا ... إذن فلنقرأ الديوان معا من فاتحته، فما أحسب الشاعر يختار فاتحة الديوان إلا من أجود شعره.
وتناول الديوان يقرأ منه ونستمع إليه، ووقفنا عند أشياء، وتداولنا الرأي في أشياء، وكان الأستاذ مخلوف أكثرنا حماسة في النقد، ومضت ساعات ونحن نقرأ، ولكل رأي يبديه، ثم طوينا الديوان وأخذ مخلوف يتحدث في موضوعه ...
وقال الرافعي يخاطبه: «وما دمت على هذا الرأي في الديوان، فلماذا لا تنشره، إن لك لسانا وبيانا، وإنه لنقد يستحق أن يقرأه أدباء العربية ...!»
نامعلوم صفحہ