3
وطارت الشرارة الأولى فاندلعت ألسنة النار، فما خمدت حتى أحدثت أزمة وزارية، وأنشأت جفوة بين سعد وعدلي، وأوشكت أن تؤدي بعلي ماهر إلى المحاكمة، وهزت دوائر البرلمان، ثم انتهت في النيابة العمومية ... •••
لم تكن بداية هذه المعركة تنذر بما آلت إليه، فما كانت في أولها إلا الخصومة بين مذهبين في الأدب وأسلوبين في الكتابة، فما لبثت من بعد أن استحالت إلى حرب شعواء يتقاذف فيها الفريقان بألفاظ الكفر والضلال والإلحاد والغفلة والجمود، وانتقلت من ميدان الأدب واللغة إلى ميدان الدين والقرآن، ثم إلى ميدان السياسة والحكومة والبرلمان، ثم إلى ميدان القضاء، والدكتور طه رجل لا تستطيع أن تفرق بين مذهبه في الأدب ومذهبه في الدين، ولا بينهما وبين مذهبه في السياسة، والرافعي رجل كان لا يفرق بين الدين والأدب، ولا يعرف شيئا منهما ينفصل عن شيء أو يتميز منه، ولكنه في السياسة كان يتحلى بفضيلة الجهل التام، فلا تعرف له رأيا في السياسة تؤاخذه به أو تناقشه فيه؛ لأنه كان لا يعرف من السياسة إلا حادثة اليوم بأسبابها، لا بأصحابها، وكم جر عليه هذا الجهل السياسي من متاعب! وكم ألصق به من تهم! ولكنه هنا كان من عوامل توفيقه في هذه المعركة. •••
في سنة 1925 كانت الحكومة للأحرار الدستوريين ولأصدقائهم، والأحرار الدستوريون حزب طه حسين، نشأ بينهم ووقف قلمه على الدعاية لهم، فلما رأى علي ماهر باشا - وزير المعارف يومئذ - أن يضم الجامعة المصرية إلى وزارة المعارف، انضم معها الدكتور طه حسين أستاذ الأدب العربي بالجامعة، على شرط الواقف!
ومضى الدكتور طه يحاضر طلابه في كلية الآداب محاضرات في الأدب الجاهلي على الأسلوب الذي رآه لهم، فلما استدار العام جمع طه محاضراته في كتاب أخرجه للناس باسم «في الشعر الجاهلي»، وقرأ الناس كتاب الدكتور طه حسين بعد أن سمعه طلابه منجما في كلية الآداب، فقرءوا رأيا جديدا في الدين والقرآن رجح ما كان عندهم ظنا بالدكتور طه حسين وكتاب السياسة الأسبوعية، فقال الأكثرون من القراء: هذا كفر وضلال، وقالت طائفة: هو خطأ في الفكر وإسراف في حرية الرأي، وقال الأقلون: بل هو الأسلوب الجديد لتجديد الآداب العربية وتحرير الفكر العربي، وظل الرافعي ساكتا؛ إذ لم يكن قد قرأ الكتاب بعد، فما نبهه إلى خطره إلا مقالان نشر أحدهما الأستاذ عباس فضلي القاضي، في السياسة الأسبوعية، وكتب ثانيهما الأمير شكيب أرسلان في كوكب الشرق، فكان فيهما الإنذار للرافعي بأنه قد آن أوانه ...
وانتضى الرافعي قلمه وكتب مقاله الأول فبعث به إلى جريدة «كوكب الشرق»، ثم مقالات ثلاثا بعده، ولم يكن قد قرأ الكتاب، ولا عرف عنه إلا ما نشرت الصحف من خبره، فكانت المعركة بذلك في ميدانها الأول، خصومة بين مذهبين في الأدب وفي الكتابة وفي طرائق البحث، على أن الرافعي لم ينس في هذه المقالات أن له ثأرا عند طه، فجعل إلى جانب النقد الأدبي في هذه المقالات شيئا من أسلوبه المر في النقد، ذلك الأسلوب الذي لا يريد به أن يفحم أكثر مما يريد أن يثأر وينتقم.
ثم تلقى كتاب الدكتور طه حسين فقرأه، فثارت ثائرته لأمر جديد ...
لقد كان شيئا منكرا أن يزعم كاتب أن له الحق في أن يتجرد من دينه ليحقق مسألة من مسائل العلم، أو يناقش رأيا من الرأي في الأدب، أو يمحص رواية من الرواية في التاريخ، لم يكن أحد من كتاب العربية ليترخص لنفسه في ذلك فيجعل حقيقة من حقائق الدين في موضع الشك، أو نصا من نصوص القرآن في موضع التكذيب، ولكن الدكتور طه قد فعلها وترخص لنفسه، ومنح نفسه الحق في أن يقول قالة في القرآن وفي الإسلام وتاريخ الإسلام، وقرأ الرافعي ما قاله طه، فغضب غضبته للدين والقرآن وتاريخ المسلمين، ونقل المعركة من ميدان إلى ميدان ...
وكان طه في أول أمره عند الرافعي كاتبا يزعم أن له مذهبا جديدا في الأدب، فعاد مبتدعا مضلا له مذهب جديد في الدين والقرآن، فكما ترى البدوي الثائر لعرضه أن ينتهك، كان الرافعي يومئذ، فمضى يستعدي الحكومة والقانون وعلماء الدين أن يأخذوا على يده ويمنعوه أن تشيع بدعته في طلاب الجامعة ... وترادفت مقالاته ثائرة مهتاجة تفور بالغيظ وبالحمية الدينية وبالعصبية للإسلام والعرب، كأن فيها معنى الدم!
ونسي في هذه المقالات كل اعتبار مما تقوم به الصلات بين الناس، فما كان يكتب نقدا في الأدب، بل يصب لهيبا وحمما وقذائف لا تبقي على شيء ، وكان ميدانه في جريدة كوكب الشرق، وكوكب الشرق يومئذ هي جريدة الأمة وجريدة سعد، وجريدة الشرق العربي كله؛ فمن ذلك لم يبق في مصر قارئ ولا كاتب إلا صار له رأي في طه حسين وفي دينه، وإن للأمة من قبل رأيا في وطنيته ومذهبه، وحسبك بها من وطنية في رأي الشعب، وطه حسين هو عدو سعد!
نامعلوم صفحہ