19 (4)
وما فرغ الرافعي من كتابة هذا الفصل، حتى أحس بحاجته إلى الراحة بعد ما بذل من جهد، فأغلق دار كتبه وخرج إلى الشارع يشم الهواء، ثم لم يكد يأتي المساء حتى جاءه البريد برسالة من جمعية الكشاف المسلم بالشام، تطلب إليه أن يعد لها موضوعا تنشره في صحيفتها لمناسبة المولد النبوي كذلك ...!
وضاقت أخلاق الرافعي، فهم أن يلقي الرسالة ليفرغ لنفسه بضعة أيام للاستجمام، ثم تحرج، فعادت إليه ابتسامته وهو يقول: «سأفعلها قربى إلى محمد
صلى الله عليه وسلم ، ولو رمى بي هذا الجهد المتواصل إلى تهلكة!» وعاد إلى مكتبه وهو متعب مكدود ... ثم أملى علي مقاله «حقيقة المسلم» الذي أعاد نشره في الرسالة بعد ذلك وجمعه إلى وحي القلم.
وله في هذه الفترة بضع مقالات أخرى نشرها في مجلة المقتطف، ثم دعته الرسالة ليكتب فصلا عن الهجرة في العدد الممتاز الأول لسنة 1353ه، فكان ذلك أول عهده بالكتابة فيها، ثم اتصل بها حبله. (5)
بعدما أنشأ الرافعي مقالة «وحي الهجرة في نفسي»، أهدى إليه الشاعر المهندس علي محمود طه ديوانه «الملاح التائه» وأحسبه طلب إليه أن يكتب عنه، وكان بين الرافعي والشاعر المهندس صلة قديمة من الود، أظنها نشأت في مكتب الأستاذ صروف محرر المقتطف، حيث كان الرافعي يقضي أكثر أوقات فراغه كلما هبط إلى القاهرة لعمل من أعماله، وهناك يلتقي الرافعي، وصروف، وإسماعيل مظهر، ومحمود شاكر، والمعلوف؛ وغيرهم من أدباء العربية، فيحتدم الجدل ساعات في موضوعات شتى من الأدب، ولم يكن للرافعي ندوة أدبية يقصد إليها كلما جاء القاهرة منذ هجر فلانة، أحب إليه من دار المقتطف، ثم صار له ندوة ثانية، من بعد حين اتصل سببه بالرسالة، فكان يقضي وقته بين عيادة الدكتور شخاشيري في فم الخليج، وعبد القادر حمزة والمازني في البلاغ، وإخوان صروف في المقتطف، والزيات في دار الرسالة، ولم يلتق إلا مرة أو مرتين بالأستاذ أحمد أمين والدكتور عزام في «لجنة التأليف والترجمة والنشر»، عندما كانت اللجنة قائمة على طبع كتابه «وحي القلم».
قلت: إنه كانت بين الرافعي والشاعر علي محمود طه صلة من الود، ومنها أن الشاعر المهندس وضع له رسما (تصميما) للبيت الذي كان في نيته أن يبنيه لينتقل إليه وينقل دار كتبه قبل أن يموت، ولهذا البيت قصة لم تتم؛ لأن هذا البيت لم يتم ... فقد كان كل ما ادخره الرافعي من جهاده بضعا وثلاثين سنة، بضع مئات من الجنيهات، اشترى بنصفها قراريط لينشئ فيها حديقة وبيتا يسكنه - إذ كان وما زال إلى أن مات يسكن بيت أبيه - وبقي معه بعد ذلك قدر من المال لا يكفي نفقات البناء والإنشاء، فآثر أن ينتظر حتى يجتمع إليه شيء، وأسلف صهره ما بقي عنده من المال إلى أجل، وفي النفس أمل، ثم جاءت الأزمة فأكلت ثروة صهره جميعا لم تبق منها على شيء، وضاعت ذخيرة الرافعي فيما ضاع ولم يستطع المدين وفاء الدين، فلم يبق للرافعي من جهاده وما ادخر إلا الأرض الخربة، والأمل في عطف الله، وخطوط تبين حدود البيت وحجراته وأبهاءه وحديقته، مرسومة على ورقة زرقاء ...! ... وجاءه ديوان الشاعر علي محمود طه، وديوان الماحي، فدفعهما إلي؛ لأختار له ما يقرأ من كليهما، ولم أكن أعرف يومئذ ما بينه وبين الشاعر المهندس، ولكن رأيي في ديوانه وافق هواه، فما فرغت من قراءته حتى دفعته إليه وعلى هامشه إشارات بالقلم ، وما دفعته إليه حتى تهيأ للكتابة عنه ...
وأنشأ مقالة مسهبة نشرها في المقطم، تحدث فيها عن الشعر حديثا يبين مذهبه وطريقته في فهم الشعر وفي إنشائه، ثم انثنى إلى الشاعر المهندس يمدح ويثني، وينتقد وينصح ... وكان مؤمنا بما كتب، ولكن إيحاءات من الواعية الباطنة
20
كانت تملي عليه بعض الحديث في التعريض ببعض الشعراء المعاصرين ...
نامعلوم صفحہ