وكنت أعمل بالتدريس في مدرسة وادي النيل الثانوية بجوار محطة باب اللوق على مدى خطوات من مكتب المقتطف والمقطم، فزارني الأستاذ نجيب شاهين بالمدرسة موفدا من قبل الدكتور يعقوب صروف وقال لي: إن الدكتور وبعض ذوي الشأن ينتظرونني بعد الفراغ من الحصة قبل فسحة الظهر، ولم يخبرني شيئا عن موضوع الدعوة.
فلما دخلت المكتب وجدت الدكتور وشابا من أصهاره، ومعه الشيخ الغنيمي التفتازاني ورجلا إنجليزيا لا أعرفه، ولم يعرفني به الدكتور، ولكنه قال: إنك تعلم قلق الناس في هذه الأيام من جانب الحدود الشرقية، وكلهم يظنون أن الهجمة منها قريبة على قناة السويس، ثم على جميع البلاد المصرية، ومثلك خليق أن يعيد الطمأنينة إلى نفوسهم بما تراه عيانا، وما تطلع عليه من المعلومات المفصلة وهي حاضرة عند المختصين بالمسألة ... وأشار إلى ناحية الرجل الإنجليزي، وكل ما يطلب منك أن تطلع منها في القاهرة على ما يلزمك، وأن تهيئ نفسك بعدها للرحلة إلى الخطوط الأمامية في صحراء سيناء ، ثم تصفها بأسلوبك المعهود؛ لأن مجرد الوصف الصحفي الشائع لا يكفي للإقناع والتأثير، ولولا ذلك لكان في مخبر من مخبرينا أو مخبري الصحف الأخرى من يغني هذا الغناء.
رأيي الذي لم أعلنه!
وأحب أن أعيد هنا رأيي الذي أعلنته في أثناء الحرب العالمية الثانية، ولم أستطع أن أعلنه في أثناء الحرب العالمية الأولى، فقد كان من رأيي في الحربين أن تتولى مصر واجب الدفاع عن حدودها موفورة السلاح والاستقلال، وألا تتولاه - بداهة - في ظل الحماية أو الاحتلال.
فلما سمعت اقتراح الدكتور صروف قلت له: إنني لا أكره أن أبث الطمأنينة في قلوب المصريين من ناحية الدفاع عن بلادهم، إذا كان المصريون هم الذين يقومون بأعباء هذا الدفاع، أما وهو - كما يحدث الآن - من عمل دولة الحماية، فليس من المعقول أن أرفض الحماية وأقبل دفاعها.
وكان الدكتور يعلم رأيي هذا في الحماية من أحاديثي معه قبل ذلك خلال زياراتي له في صدد مقالاتي الأدبية، فكاد يعتذر من مواجهتي بالاقتراح؛ لأنه نسي أننا تحدثنا في مسألة الحماية منذ شهور، وانصرفت وهو يكرر قوله: إنه لو ذكر أن في الاقتراح شيئا لا أسيغه لما فاتحني به، وجعل يقول مازحا: إذن تعود إلى المعري وشوبنهور ...!
ولا أذكر أن أحدا من الحاضرين في تلك الجلسة فاه بكلام يخالف هذا المعنى غير الشيخ التفتازاني ... فإنه طفق يقول ويعيد: يا سيدي فيها إيه؟ وماذا في ذلك يا سيد عباس؟ أليس المهم الآن أن تطمئن النفوس على الحدود؟
فلم أجبه ولم يجبه أحد من الحاضرين.
أنا والمازني ... بين الموت والحياة!
وقبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى عدت إلى التحرير في الصحف على غير انتظار، بل على يأس من العمل في الصحافة والتدريس إلى ما بعد الهدنة؛ إذ كان للهدنة موعد قريب.
نامعلوم صفحہ