48

وأبت المروءة على صاحب الصحيفة أن يماطل أحدا من أصحاب الديون عليها، أو أصحاب الأجور فيها بدرهم واحد، فاتفق مع تاجر من تجار الورق المشهورين على أن يشتري مؤلفاته جملة واحدة سدادا لثمن الورق وما إليه، واتفق معه في الوقت نفسه على أن يشتري النسخ من الموظفين والعمال بأثمانها المتفق عليها، وأذكر أن ثمن النسخة من معجم «كنز العلوم واللغة» لم يزد في هذا الاتفاق على ثلاثة عشر قرشا، وكانت قبل ذلك بمائة قرش، ثم بيعت بعد أشهر قليلة بخمسين قرشا، ثم بسبعين.

ولقيت الرجل مودعا فقال لي: إنه يرجو أن نتعاون معا في عمل صحفي نحن أقدر عليه وأصلح له من الصحافة السياسية، وأنه يدرس الفكرة ويلخصها لي عسى أن أفكر فيها، ويرجو أن يبلغني نتيجة درسه لها بعد أسبوعين أو شهر على الأكثر، إذا صح العزم على الشروع في تنفيذها ...

مقالاتي مرتين!

كان الأستاذ فريد وجدي يصدر مجلة شهرية تسمى «الحياة»، ويكتب فيها أحيانا مقامات خيالية تسمى بالوجديات، ثم تفرغ لإصدار الدستور، وترك المجلة إلا في فترات متباعدة يعاودها كلما اجتمع لها من مادة الفصول الأدبية ما يملأ عددا من أعدادها، وربما اختار بعض هذه الفصول من مقالاتي التي كنت أنشرها في الصحيفة اليومية ...

أما «الوجديات» فقد كان يكتبها على أسلوب المقامات، ويديرها على المواعظ الاجتماعية، وتقريب المثل العليا التي تصطبغ على الدوام بصبغة الدين أو بصبغة الأخلاق المثالية، وكان لها قراء كثيرون يطلبونها كلما طالت غيبتها، وقد تصدر منها طبعتان وثلاث طبعات.

قال الأستاذ: «إن الحياة» أولى بمقالاتك من الصحيفة اليومية، وإنك تستطيع أن تجرب قلمك في المقامات، فتظهر «الحياة» وفيها مقاماتك ومقالاتك إلى جانب «الوجديات»، ولولا أنني أنتظر حتى أعلم أن هذا العمل يعوض تكاليفه ويغنيك عن عمل آخر لشرعنا فيه منذ الساعة، ولكننا قد نشرع فيه بعد أسابيع ...

بلا عمل

ومضت الأسابيع ولم أسمع من الأستاذ خبرا عن هذه الفكرة، ولم أصل من دراستها بيني وبين نفسي إلى نتيجة تدعو إلى الثقة بنجاحها، فوجب البحث عن عمل لي في الصحافة، أو ما يناسب الصحافة، ولكن ما العمل الذي يتيسر لي عند طلبه على عجل، ولا بد من العجل، ولا طاقة بالانتظار ...

أفق الصحافة في تلك الآونة مظلم يطبق عليه الظلام من قراره، ولا تلوح منه شعاعة برانية ولا جوانية؛ لأن البلاء الذي كانت تصاب به الصحافة من داخلها قد كان أشد عليها من البلاء المسلط عليها من أعدائها ...

كان «اللواء» في حياة مصطفى كامل يعول على موارد يلدز وعابدين، ومعونة بعض الغيورين من سراة الترك والمصريين، وانقطعت موارد يلدز وعابدين من قبل وفاته ... وانقطع الأمل في موارد يلدز بعد زوال عهد عبد الحميد، وفي موارد عابدين بعد إعراض الخديو عباس عن الحزب الوطني في عهد سياسة الوفاق، واستحكام العداء بين الحاشية الخديوية وخليفة مصطفى كامل «محمد فريد» ... وقد كاد فريد - رحمه الله - ينهض وحده بأعباء اللواء المالية والسياسية، لولا ما أصابه من المصادرة بعد المصادرة ومن المحاكمة بعد المحاكمة، حتى أجمع عزيمته آخر الأمر على هجر الديار ...

نامعلوم صفحہ