115

ولا أظن كذلك أنه سيعترف لي في هذا الميزان بلا تعقيب ولا استدراك، فلنسرع إذن إلى التعقيب والاستدراك، ولا لوم ولا إجحاف.

فالدكتور صحيح الأصول في النقد، ولكنه لا يوفق بين أصوله وطبيعته في كثير من الموضوعات، وهو حين يقرر المبدأ على صواب غالب، ولكنه حين يطبق المبدأ ينحرف أحيانا عن الصواب.

وعلة ذلك كما أسلفنا أن القاعدة والطبيعة عنده لا تتفقان، فالطبيعة عنده لا تحتكم إلى الخيال والتصوير الخالق، ولكنها تحتكم إلى الرأي والاطلاع، فيقع من هنا التباين والاختلاف.

أليس الدكتور يوصي بمبدأ «الشك» أو مذهب ديكارت؟

بلى! ولكنك حين تقرءه ترى له عبارات من التوكيد واليقين قلما تراها في عبارات الشاكين المترددين، فلا يعجب - أكثر ما يعجب - إلا أشد الإعجاب، أو إعجابا لا حد له، ولا يقنع بما دون الإسراف وترديد كلمة الإسراف، ولا يغضب الذين يتحدث عنهم إلا غضبا شديدا، ولا يضيقون إلا أشد الضيق، ولا يتكلمون إلا بصيغة المبالغة في معظم الأشياء ... ثم تنتقل من هذا إلى تشكيك يذكرك ب «إن شاء الله» التي قالها جحا حين ضاع المال ... فقال: ضاع المال إن شاء الله ...

كأن الدكتور يخاف من نسيان الشك خوف جحا من تلك الكلمة التي نسيها فضاع ماله، فأنت تسمع منه: «أزعم أنني ضحكت ... وقد أزعم ... وقد أتردد ... وقد أقول ... وقد لا أقول.» مع أن المرء لو أقسم جاهدا: «والله لأزعمن، وتالله لأترددن، وبالله لأقولن.» لما خرج بالقسم مع الزعم، من دائرة الشكوك.

والقاعدة تستقر على اطراد إذا كانت هي والطبع على وفاق، غير أنهما عرضة للاختلاف إذا وقع بينهما الخلاف، ومن هنا نرى الدكتور يقول مرة: إن أصول النقد الغربي واحدة قد وضعها اليونان قديما وفرغوا منها، وتلقاها منهم الإنجليز، كما تلقاها منهم الفرنسيون فهم لا يختلفون.

ثم نراه يقول بعد أشهر قليلة: إن النقد ليست له أصول مقررة عند الناقد الفرد فضلا عن الأمم الكبيرة، والعصور الكثيرة، وإن الناقد يستحسن أو يستهجن، والمرجع إلى ذوقه وحده في استحسانه واستهجانه.

ولعل هذا التباين بين القاعدة والطبع هو الذي جعل الدكتور ينكر الجديد إذا جاءه في زي القديم، أو هو الذي جعله يطالب الشعر الحديث بأمور لا يطالب بها في حكم الطبيعة؛ لأنه يجري في مطالبته على القياس.

وأقول للقلم: على رسلك! إلى أين؟ ما أحسبك إلا متوقعا الكثير من تعقيب الدكتور واستدراكه، فأنت تستوفي المثل وتأمن أن تزيد.

نامعلوم صفحہ