من الزواج إلى البعث
(صفة محمد - بناء المكيين الكعبة - حكم محمد بينهم في الحجر الأسود - حكماء قريش والوثنية - بناء محمد وبناته - موت أبنائه - زواج بناته - ميل محمد للعزلة - تحنثه في حراء - الرؤيا الصادقة - أول الوحي) ***
تزوج محمد من خديجة بعد أن أصدقها عشرين بكرة. وانتقل إلى بيتها ليبدأ وإياها صفحة جديدة من صفحات الحياة، صفحة الزوجية والأبوة، وليبادلها من جانبه حب شاب في الخامسة والعشرين لم يعرف نزوات الشباب ولا طيشه، ولا هو عرف هذا الحب الأهوج يبدأ كأنه الشعلة المتوهجة لينطفئ من بعد ذلك سراجه، وليرزق منها البنين والبنات؛ فيحتسب ولديه القاسم وعبد الله الطاهر الطيب
1
بما يثير في نفسه لاعج الحزن والألم، وتبقى له بناته وهو بهن البر والشفقة، وهن له الإكرام والإعزاز الخالص.
وكان محمد وسيم الطلعة، ربعة في الرجال ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، ضخم الرأس، ذا شعر رجل شديد سواده، مبسوط الجبين فوق حاجبين سابغين منونين متصلين، واسع العينين أدعجهما، تشوب بياضهما في الجوانب حمرة خفيفة وتزيد في قوة جاذبيتهما وذكاء نظرتهما أهداب طوال حوالك، مستوي الأنف دقيقه، مفلج الأسنان، كث اللحية، طويل العنق جميله، عريض الصدر رحب الساحتين، أزهر اللون، شثن الكفين والقدمين (أي غليظهما) يسير ملقيا جسمه إلى الأمام مسرع الخطو ثابته، على ملامحه سيما التفكير والتأمل، وفي نظرته سلطان الآمر الذي يخضع الناس لأمره. فلا عجب وتلك صفته أن تجمع خديجة بين حبه والإذعان له، ولا عجب أن تعفيه من تدبير ما لها لتقوم هي على هذا التدبير كدأبها من قبل، وأن تدع له ما شاء من فسحة الوقت ليفكر وليتأمل.
وأقام محمد وقد أغناه الله بزواج خديجة في ذروة من النسب وسعة من المال، وأهل مكة جميعا ينظرون إليه نظرة غبطة وإكبار. وكان في شغل عن نظرتهم بما أسبغه الله عليه من فضله، وما يبشره به خصب خديجة من عقب صالح. لكن ذلك لم يصرفه عن الاختلاط بهم والأخذ معهم بنصيب في الحياة العامة على ما كان يفعل من قبل، بل لقد زاده جاها بينهم ومكانة فيهم، وزاده لذلك تواضعا على جم تواضعه. فلقد كان على عظيم ذكائه وظاهر تبريزه حسن الإصغاء إلى محدثه لا يلوي عن أحد وجهه، ولا يكتفي بإلقاء السمع إلى من يحدثه، بل يلتفت إليه بكل جسمه. وكان قليل الكلام كثير الإنصات، ميالا للجد من القول، وإن كان لا يأبى أن يشارك في مفاكهة وأن يمزح ثم لا يقول إلا حقا. وكان يضحك أحيانا حتى تبدو نواجذه. فإذا غضب لم يظهر عليه من أثر الغضب إلا نفرة عرق بين حاجبيه؛ ذلك أنه كان يكظم غيظه ولا يريد أن يظهر غضبه، لما جبل عليه من سعة الصدر وصدق الهمة والوفاء للناس، ومن البر والجود وكرم العشرة، وما كان عليه إلى جانب ذلك من ثبات العزيمة، وقوة الإرادة، وشدة البأس، ومضاء التصميم مضاء لا يعرف التردد. وهذه الصفات مجتمعة فيه كان ذات أثر عميق في كل ما اتصل به، فمن رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه. فما كان أعظم أثرها إذن فيما اتسق بينه وبين خديجة الزوج الوفية من مودة صادقة ووفاء كامل !
لم ينقطع محمد عن مخالطة أهل مكة والأخذ معهم بنصيب في الحياة العامة، وكانوا يومئذ في شغل بما أصاب الكعبة؛ فقد طغى عليها سيل عظيم انحدر من الجبال فصدع جدرانها بعد توهينها. وكانت قريش من قبل ذلك تفكر في أمرها. فهي لم تكن مسقوفة، وكانت لذلك عرضة لانتهاب السارقين ما تحتوي من نفائس. لكن قريشا كانت تخشى إن هي شيدت بنيانها ورفعت بابها وسقفتها أن يصيبها من رب الكعبة المقدسة شر وأذى. فقد كانت تحيط بها في مختلف عهود الجاهلية أساطير تخيف الناس من الإقدام على تغيير شيء من أمرها، وتجعلهم يعتبرون ذلك بدعا. فلما طغى عليها السيل لم يكن بد من الإقدام ولو في شيء من الخوف والتردد. وصادف أن رمى البحر إذ ذاك بسفينة قادمة من مصر مملوكة لتاجر رومي اسمه باقوم فحطمها. وكان باقوم هذا بناء على شيء من العلم بالنجارة. فلما سمعت قريش بأمره خرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى جدة، فابتاعوا السفينة من الرومي وكلموه في أن يقدم معهم إلى مكة ليعاونهم في بناء الكعبة؛ وقبل باقوم. وكان بمكة قبطي يعرف نجر الخشب وتسويته، فوافقهم على أن يعمل لهم ويعاونه باقوم.
ثم إن قريشا اقتسمت جوانب أربعة، لكل قبيلة جانب تقوم بهدمه وبنائه. ولقد ترددوا قبل هدمها مخافة أن يصيبهم أذى، ثم أقدم الوليد بن المغيرة في شيء من الخوف، فدعا آلهته وهدم بعض الجانب من الركن اليماني. وأمسى القوم ينتظرون ما الله فاعل بالوليد. فلما أصبح ولم يصبه شيء أقدموا يهدمون وينقلون الحجارة، ومحمد معهم، حتى انتهى الهدم إلى حجارة خضر ضربوا عليها بالمعول فارتد عنها؛ فاتخذوها أساسا للبناء فوقه، ونقلت قريش أحجار الجرانيت الأزرق من الجبال المجاورة وبدأت في البناء. فلما ارتفع إلى قامة الرجل وآن أن يوضع الحجر الأسود المقدس في مكانه من الجانب الشرقي، اختلفت قريش أيهم يكون له فخار وضع الحجر في هذا المكان. واستحر الخلاف حتى كادت الحرب الأهلية تنشب بسببه.
تحالف بنو عبد الدار وبنو عدي أن يحولوا بين أية قبيلة وهذا الشرف العظيم؛ وأقسموا على ذلك جهد أيمانهم. حتى قرب بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما وأدخلوا أيديهم فيه توكيدا لأيمانهم، ولذلك سموا «لعقة الدم». فلما رأى أبو أمية بن المغيرة المخزومي ما صار إليه أمر القوم، وكان أسنهم وكان فيهم شريفا مطاعا، قال لهم: اجعلوا الحكم فيما بينكم أول من يدخل من باب الصفا. فلما رأوا محمدا أول من دخل قالوا: هذا الأمين رضينا بحكمه. وقصوا عليه قصتهم، وسمع هو لهم ورأى العداوة تبدو في عيونهم، ففكر قليلا ثم قال: هلم إلي ثوبا، فأتي به؛ فنشره وأخذ الحجر فوضعه بيده فيه، ثم قال: ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف من أطراف الثوب؛ فحملوه جميعا على ما يحاذي موضع الحجر من البناء، ثم تناوله محمد من الثوب ووضعه في موضعه، وبذلك انحسم الخلاف وانفض الشر. وأتمت قريش بناء الكعبة حتى جعلت ارتفاعها ثماني عشرة ذراعا، ورفعوا بابها عن الأرض ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا. وجعلوا فى داخلها ست دعائم في صفين، وجعلوا في ركنها الشآمي من داخلها درجا يصعد به إلى سطحها. ووضع هبل في داخل الكعبة، كما وضعت في داخلها النفائس التي تعرضت من قبل بنائها وسقفها لمطامع اللصوص.
نامعلوم صفحہ