وكان هاشم كبير قومه، وكان ذا يسار، فولي السقاية والرفادة، ودعا قومه إلى مثل ما دعاهم إليه قصي جده. دعاهم إلى أن يخرج كل منهم من ماله ما ينفقه هو في إطعام الحاج أثناء الموسم. فزوار بيت الله وحجاجه هم ضيف الله وأحق الضيف بالكرامة ضيف الله. وكذلك كان يطعم الحاج جميعا حتى يصدروا عن مكة.
لم يقف أمر هاشم عند هذا، بل اتصل بره وكرمه بأهل مكة أنفسهم. أصابتهم سنة،
8
فجاء لهم من الطعام وثرد لهم الثريد بما جعلهم ينظرون من جديد إلى الحياة بوجه باسم. وهاشم هو كذلك الذي سن رحلتي الشتاء والصيف: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، وبهذه المظاهر كلها ازدهرت مكة وسمت مكانتها في أنحاء شبه الجزيرة جميعا، واعتبرت العاصمة المعترف بها. وطوع هذا الازدهار لأبناء عبد مناف أن يعقدوا مع جيرانهم معاهدات أمن وسلام: عقد هاشم بنفسه مع الإمبراطورية الرومانية ومع أمير غسان معاهدة حسن جوار ومودة، وحصل من الإمبراطورية على الإذن لقريش بأن تجوب الشام في أمن وطمأنينة. وعقد عبد شمس معاهدة تجارية مع النجاشي، كما عقد نوفل والمطلب حلفا مع فارس ومعاهدة تجارية مع الحميريين في اليمن. وكذلك ازدادت مكة منعة جاه كما ازدادت يسارا، وبلغ أهلها من المهارة في التجارة أن أصبحوا لا يدانيهم فيها مدان من أهل عصرهم. وكانت القوافل تجيء إليها من كل صوب وتصدر عنها في رحلتي الشتاء والصيف، وكانت الأسواق تنصب فيما حولها لتصريف هذه التجارة فيها؛ ولذلك مهر أهلها في النسيئة والربا وفي كل ما يتصل بالتجارة من أسباب المعاملات.
وظل هاشم تتقدم به السن وهو في مكانته على رياسة مكة لا يفكر أحد في منافسته، حتى خيل لابن أخيه أمية بن عبد شمس أنه قد بلغ مكانا يسوغ له هذه المنافسة، لكنه لم يقدر وغلب على أمره، وبقي الأمر لهاشم. وترك أمية مكة إلى الشام عشر سنوات كاملة. وإن هاشما لفي رحلته يوما عائدا من الشام مارا بيثرب إذ رأى امرأة ذات شرف وحسب تطل على قوم يتجرون لها؛ تلك سلمى بنت عمرو الخزرجية. وقد أعجب هاشم بها، وسأل: أهي في عصمة رجل؟ فلما عرف أنها مطلقة وأنها لا ترضى زوجا إلا أن تكون عصمتها بيدها، خطبها إلى نفسها فرضيت لعلمها بمكانته من قومه. وأقامت معه بمكة زمنا عادت بعده إلى المدينة حيث ولدت ولدا دعته شيبة ظل في حضانتها بيثرب.
خريطة مكة المكرمة.
ومات هاشم بعد سنين من ذلك بغزة أثناء إحدى رحلات الصيف، فخلفه أخوه المطلب في مناصبه. وكان المطلب أصغر من أخيه عبد شمس، ولكنه كان ذا شرف في القوم وفضل. وكانت قريش تسميه «الفيض» لسماحته وفضله. وطبيعي، وذلك مكان المطلب من قومه، أن تبقى الأمور تسير سيرتها مطمئنة هانئة.
وفكر المطلب يوما في ابن أخيه هاشم، فذهب إلى يثرب وطلب إلى سلمى أن تدفع إليه الفتى وقد بلغ أشده. وأردف المطلب الفتى على بعيره ودخل به مكة، فظنته قريش عبدا له جاء به؛ فتصايحت: عبد المطلب. قال المطلب، ويحكم، إنما هو ابن أخي هاشم قدمت به من يثرب. على أن هذا اللقب غلب على الفتى فدعي به ونسي الناس اسم شيبة الذي دعي به منذ ولد.
وأراد المطلب أن يرد على ابن أخيه أموال هاشم، لكن نوفل أبى ووضع يده عليها. فلما اشتد ساعد عبد المطلب استعدى أخواله بيثرب على عمه كي يردوا عليه حقه. وأقبل ثمانون فارسا من خزرج يثرب لنصرته، فاضطر نوفل إلى رد ماله إليه. وقام عبد المطلب في مناصب هاشم، له السقاية والرفادة من بعد عمه المطلب. وقد لقي في القيام بهذين المنصبين، وبالسقاية بنوع خاص، شيئا غير قليل من المشقة؛ فقد كان يومئذ وليس له من الأبناء إلا ولده الحارث. وكانت سقاية الحاج يؤتى بها، منذ نضبت زمزم، من آبار عدة مبعثرة حول مكة، فتوضع في أحواض إلى جوار الكعبة. وكانت كثرة الولد عونا على تيسير هذا العمل والإشراف عليه. أما وقد ولي عبد المطلب السقاية والرفادة وليس له ولد إلا الحارث فقد عناه الأمر وطال فيه تفكيره.
وكانت العرب ما تفتأ تذكر زمزم التي طمها مضاض بن عمرو الجرهمي منذ قرون خلت، وتتمنى لو أنها كانت لا تزال باقية. وكان عبد المطلب بطبيعة مركزه أكثرهم تفكيرا في هذا الأمر وأشدهم تمنيا أن يكون. ولقد ألح الرجاء به حتى كان يهتف به الهاتف أثناء نومه يحضه على أن يحفر البئر التي تفجرت تحت أقدام جده إسماعيل. وألح الهاتف يدله على مظان وجودها؛ وألح هو باحثا عن زمزم حتى اهتدى إليها بين الوثنين إساف ونائلة. وجعل يحفر مستعينا بابنه الحارث حتى نبع الماء وظهرت غزالتا الذهب وأسياف مضاض الجرهمي، وأرادت قريش أن تشارك عبد المطلب في البئر وفيما وجد فيها. فقال لهم: لا! ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم: نضرب عليها بالقداح؛ نجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له؛ فارتضوا رأيه. ثم أعطوا القداح صاحب القداح الذي يضرب بها عند هبل في جوف الكعبة، فتخلف قدحا قريش وخرجت الأسياف لعبد المطلب والغزالتان للكعبة، فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب غزالتي الذهب حلية للبيت الحرام. وأقام عبد المطلب في سقاية الحاج بعد أن يسرتها زمزم له.
نامعلوم صفحہ