هنا موضع لوقفة إعجاب بصدق وفاء المسلمين وعظيم محبتهم لمحمد وإيمانهم برسالته. فها هم أولاء يعلمون أن قريشا تفوقهم في العدد وأنها ثلاثة أمثالهم، ومع ذلك اعتزموا الوقوف في وجهها وقتالها. وها هم أولاء يرون الغنيمة فاتتهم فلم يصبح الكسب المادي هو الذي يحفزهم للقتال، ومع ذلك قاموا إلى جانب النبي يؤيدونه ويعززونه. وها هم أولاء تتردد نفوسهم بين الطمع في النصر وخوف الهزيمة. ومع ذلك فكروا في حماية النبي وتوقيته أن يظفر به عدوه، ومهدوا له سبيل الاتصال بمن ترك بالمدينة. فأي موقف أدعى للإعجاب من هذا الموقف؟ وأي إيمان يكفل النصر كهذا الإيمان؟!
ونزلت قريش منازل القتال، ثم بعثوا من يقص لهم خبر المسلمين فجاءهم بأنهم ثلاثمائة أو يزيدون قليلا أو ينقصون، ولا كمين لهم ولا مورد؛ ولكنهم قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، فلا يموت منهم رجل قبل أن يقتل رجلا مثله. ولما كانت صفوة قريش قد خرجوا في هذا الجيش، خشي بعض ذوي الحكمة منهم أن يقتل المسلمون كثرتهم فلا تبقى لمكة مكانة. لكنهم خافوا حدة أبي جهل ورميه إياهم بالجبن والخوف، وإن لم يمنع ذلك عتبة بن ربيعة من أن يقف بينهم قائلا: «يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا. والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته. فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب؛ فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك لم نتعرض منه لما تكرهون.» فلما بلغت أبا جهل مقالة عتبة استشاط غيظا وبعث إلى عامر بن الحضرمي يقول له: «هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد مقتل أخيك.» وقام عامر فصرخ: وا عمراه ! فلم يبق بعد ذلك من الحرب مفر. وأعجل القتال أن اندفع الأسود بن عبد الأسد المخزومي من بين صفوف قريش إلى صفوف المسلمين يريد أن يهدم الحوض الذي بنوا؛ فعاجله حمزة بن عبد المطلب بضربة أطاحت بساقه فسقط إلى ظهره تشخب رجله دما، ثم أتبعها حمزة بضربة أخرى قضت عليه دون الحوض. ولا شيء أرهف لظبا السيوف من منظر الدم؛ ولا شيء أشد إثارة لعواطف القتال والحرب في الإنسان من مرأى رجل مات بيد العدو وقومه وقوف ينظرون.
وما إن سقط الأسود حتى خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى المبارزة. وخرج إليه فتية من أبناء المدينة. فلما عرفهم قال لهم: ما لنا بكم من حاجة إنما نريد قومنا. ونادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. وخرج إليهم حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث. ولم يمهل حمزة شيبة ولا أمهل علي الوليد أن قتلاهما، ثم أعانا عبيدة وقد ثبت له عتبة. فلما رأت قريش من ذلك ما رأت، تزاحف الناس، والتقى الجمعان صبيحة الجمعة لسبع عشر خلت من شهر رمضان.
وقام محمد على رأس المسلمين يعدل صفوفهم. فلما رأى كثرة قريش وقلة رجاله وضعف عدتهم إلى جانب عدة المشركين عاد إلى العريش ومعه أبو بكر، وهو أشد ما يكون خوفا من مصير ذلك اليوم، وأشد ما يكون إشفاقا مما يصير إليه أمر الإسلام إذا لم يتم للمسلمين النصر. واستقبل محمد القبلة واتجه بكل نفسه إلى ربه، وجعل ينشده ما وعده ويهتف به أن يتم له النصر. وبالغ في التوبة والدعاء والابتهال وجعل يقول: «اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد.» وما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه؛ وجعل أبو بكر من ورائه يرد على منكبيه رداءه ويهيب به: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك؛ فإن الله منجز لك ما وعدك. ولكن محمدا ظل فيما هو فيه أشد ما يكون توجها وأشد ما يكون تضرعا وخشية واستعانة بربه على هذا الموقف الذي لم يتوقعه المسلمون ولم يتخذوا له عدته، حتى خفق خفقة من نعاس رأى خلالها نصر الله، وانتبه بعدها مستبشرا، وخرج إلى الناس يحرضهم ويقول له: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.»
وسرت من نفسه القوية - أمدها الله من لدنه بما سما بها فوق كل قوة - إلى نفوس هؤلاء المؤمنين برسالته قوة ضاعفت عزمهم، وجعلت كل رجل منهم يعدل رجلين بل يعدل عشرة رجال. ويسير عليك أن تقدر هذا إذا ذكرت ما لازدياد القوة المعنوية من أثر في النفس متى توافرت أسباب ازدياد هذه القوة المعنوية فيها. فدافع الوطنية يزيدها. وهذا الجندي الذي يقف مدافعا عن وطنه المهدد بالخطر ممتلئ النفس بالعاطفة الوطنية، تتضاعف قوته المعنوية بمقدار حبه لوطنه وإيمانه به، وبمقدار تخوفه من الخطر الذي يتهدد العدو الوطن به. ولهذا تغرس الأمم في نفوس أبنائها منذ نعومة أظفارهم حب الوطن والاستهانة بالتضحية في سبيله. والإيمان بالحق وبالعدل وبالحرية وبالمعاني الإنسانية السامية يزيد القوة المعنوية في النفس بما يضاعف القوة المادية فيها. والذين يذكرون ما قام به الحلفاء في الحرب الكبرى من دعوة واسعة النطاق ضد الألمان، أساسها أنهم يدافعون عن قضية الحرية والحق ويحاربون في ألمانيا الجندية المسلحة ويمهدون لعهد سلام ونور، يدركون ما كانت تضاعف هذه الدعوة من قوة في نفوس جنود الحلفاء بمقدار ما كانت تحيطهم به من عطف في أكثر أمم العالم.
وما الوطنية وما قضية السلام إلى جانب ما كان محمد يدعو إليه؟! إلى اتصال الإنسان بالوجود كله اتصالا يندمج به فيه ويصبح قوة من قوى الكون الموجه له إلى سبيل الخير والنعمة والكمال! نعم ما الوطنية وما قضية السلام إلى جانب الوقوف في جانب الله ودفع الذين يفتنون المؤمنين عنه، والذين يصدون عن سبيله، والذين ينزلون بالإنسان إلى درك الوثنية والإشراك؟! إذا كانت النفس يزيدها حب الوطن قوة بمقدار ما في الوطن كله من قوة، ويزيدها حب السلام للإنسانية كلها قوة بمقدار ما في الإنسانية من قوة، فما أكثر ما يزيدها الإيمان بالوجود كله وبخالق الوجود كله من قوة! إنه ليجعلها قديرة أن تسير الجبال، وتحرك العوالم، وتهيمن بسلطانها المعنوي على كل من كان أقل منها في هذا الأمر إيمانا.
وهذا السلطان المعنوي يزيد قوتها أضعافا مضاعفة، فإذا لم يصل هذا السلطان المعنوي إلى غاية كماله بسبب ما كان بين المسلمين من خلاف قبل الموقعة، لم تبلغ القوة المادية كل ما تطمح إلى بلوغه، وإن هي زادت بفعل هذا الإيمان الذي ازداد قوة بتحريض محمد أصحابه فعوضهم بذلك عن قلة عددهم وعدتهم. وفي حال النبي وأصحابه هذه نزلت الآيتان:
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون * الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين .
6
ازداد المسلمون قوة بتحريض محمد إياهم ووقوفه بينهم ودفعهم لمقاتلة العدو والصيحة بهم أن الجنة لمن أحسن البلاء ومن غمس يده في العدو حاسرا. ووجه المسلمون أكبر همهم إلى سادات قريش وزعمائها يريدون استئصالهم جزاء وفاقا لما عذبوهم بمكة، ولما صدوهم عن المسجد الحرام وعن سبيل الله. ورأى بلال أمية بن خلف وابنه، ورأى بعض المسلمين الذين عرفوه بمكة حوله. وكان أمية هو الذي عذب بلالا إذ كان يخرجه إلى رمضاء مكة فيضجعه على ظهره ويأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ليفتنه عن الإسلام، فيقول بلال: أحد أحد - رأى بلال أمية فصاح به: أمية رأس الكفر لا نجوت إن نجا! وحاول بعض المسلمين من حول أمية أن يحولوا دون قتله وأن يأخذوه أسيرا. فصرخ بلال بأعلى صوته في الناس: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف! لا نجوت إن نجا. واجتمع الناس ولم ينصرف بلال حتى قتل أمية. وقتل معاذ بن عمرو بن الجموح أبا جهل بن هشام. وخاض حمزة وعلي وأبطال المسلمين وطيس المعركة وقد نسي كل منهم نفسه ونسي قلة أصحابه وكثرة عدوه، فثار النقع وامتلأ الجو بالغبار، وجعلت هام قريش تطير عن أجسادها والمسلمون يزدادون بإيمانهم قوة ويصيحون مهللين: أحد أحد، وقد كشفت أمامهم حجب الزمان والمكان وأمدهم الله بالملائكة يبشرونهم ويزيدونهم تثبيتا وإيمانا، حتى لكأن الواحد منهم إذ يرفع سيفه ويهوي به على عنق عدوه إنما تحرك قوة الله يده.
نامعلوم صفحہ