111

5

وفي قوله تعالى:

وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ،

6

وفي كثير غير هاتين الآيتين الكريمتين.

والجهاد في سبيل الله معناه الصريح، على نحو ما ورد في الآيات التي ذكرناها والتي نزلت في سرية عبد الله بن جحش، قتال الذين يفتنون المسلم عن دينه ويصدون عن سبيل الله، وهذا هو القتال في سبيل حرية الدعوة إلى الله وإلى دينه. وبعبارة تتمشى مع أسلوب عصرنا الحاضر: الدفاع عن الرأي بالوسائل التي يقاتل بها أصحاب الرأي. فإذا أراد أحد أن يفتن رجلا عن رأيه بالدعاية وبالمنطق دون أن يحمله على ترك هذا الرأي بالقوة وبغير القوة من وسائل الرشوة والتعذيب، لم يكن لأحد أن يدفع هذا الرجل إلا بإدحاض حجته وتفنيد منطقه، لكنه إذا حاول بالقوة المسلحة أن يصد صاحب رأي عن رأيه، وجب دفع القوة المسلحة بالقوة المسلحة متى استطاع الإنسان إليها سبيلا. ذلك بأن كرامة الإنسان تتلخص في كلمة واحدة: عقيدته. فالعقيدة أثمن - عند من يقدر معنى الإنسانية - من المال ومن الجاه ومن السلطان ومن الحياة نفسها؛ من هذه الحياة المادية التي يشترك الإنسان والحيوان فيها، يأكلون ويشربون، وتنمو أجسامهم وتقوى عضلاتهم. والعقيدة هي هذه الصلة المعنوية بين الإنسان والإنسان، والصلة الروحية بين المرء وربه. وهي هذا الخط الذي يمتاز به الإنسان على سائر الحيوان مما في الحياة، والذي يجعله يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤثر البائس والفقير والمسكين على أهله ولو كان به وبهم خصاصة، ويتصل بالكون كله ليعمل دائبا كي يبلغ الكون ما قدر الله له من الكمال.

إذا ملكت هذه العقيدة إنسانا فحاول غيره فتنته عنها ولم يستطع دفاعا عن نفسه، فعل ما فعل المسلمون قبل هجرتهم إلى المدينة، فاحتمل المساءة والأذى وصبر على الهوان والضيم، ولم يصده جوع ولا حرمان أيا كان نوعه عن التمسك بعقيدته. وهذا الذي فعل المسلمون الأولون هو الذي فعل المسيحيون الأولون. لكن الصابرين لعقيدتهم ليسوا هم سواد الناس ولا جماعتهم، وإنما هم الصفوة والمختارون ومن حباهم الله من قوة الإيمان ما يصغر معه كل أذى وكل ضيم؛ وما يدك الرواسي، وما تقول معه للجبل انتقل من مكانك ينتقل، على حد تعبير الإنجيل. لكنك إذا استطعت أن تدفع الفتنة بسلاح من يحاول الفتنة، وأن تقف في وجه من يصد عن سبيل الله بوسائله، وجب عليك أن تفعل، وإلا كنت مزعزع العقيدة ضعيف الإيمان. وهذا ما فعل محمد وأصحابه بعد أن استقر لهم الأمر بالمدينة، وهذا ما فعل المسيحيون بعد أن استقر لهم السلطان في رومية وفي بزنطية وبعد أن لان قلب بعض عواهل الروم لدين المسيح.

ويقول المبشرون: لكن روح المسيحية تنكر القتال على إطلاقه. ولست أقف لأبحث عن صحة هذا القول. لكن تاريخ المسيحية أمامنا شاهد عدل، وتاريخ الإسلام أمامنا شاهد عدل. فمنذ فجر المسيحية إلى يومنا هذا خضبت أقطار الأرض جميعا بالدماء باسم السيد المسيح؛ خضبها الروم وخضبتها أمم أوروبا كلها. والحروب الصليبية إنما أذكى لهيبها المسيحيون لا المسلمون. ولقد ظلت الجيوش باسم الصليب تنحدر من أوروبا خلال السنين قاصدة أقطار الشرق الإسلامية، تقاتل وتحارب وتريق الدماء، وفي كل مرة كان البابوات خلفاء المسيح يباركون هذه الجيوش الزاحفة للاستيلاء على بيت المقدس وعلى الأماكن المقدسة. أفكان هؤلاء البابوات جميعا هراطقة وكانت مسيحيتهم زائفة؟ أم كانوا أدعياء جهالا لا يعرفون أن المسيحية تنكر القتال على إطلاقه؟ أم يقولون: تلك كانت العصور الوسطى عصور الظلام فلا يحتج على المسيحية بها؟ إن يكن ذلك بعض ما قد يقولون، فإن هذا القرن المتم للعشرين الذي نعيش فيه والذي يسمونه عصر الحضارة الإنسانية العليا، قد رأى ما رأت تلك العصور الوسطى المظلمة. فقد وقف اللورد اللنبي ممثل الحلفاء: إنكلترا وفرنسا وإيطاليا ورومانيا وأمريكا، يقول في بيت المقدس في سنة 1918 حين استيلائه عليه في أخريات الحرب العالمية الأولى: «اليوم انتهت الحروب الصليبية.»

إذا كان من بين المسحيين قديسون أنكروا القتال في مختلف العصور وسموا بذواتهم إلى الذروة من معنى الإخاء الإنساني، بل من معنى الإخاء بين عناصر الكون كله، فمن بين المسلمين كذلك قديسون سمت نفوسهم هذا السمو واتصلوا بكل الوجود اتصال إخاء ومحبة وإشراق ملأ منهم النفوس بوحدة الوجود. لكن هؤلاء القديسين، من النصارى والمسلمين، وإن صوروا المثل الأعلى، لا يمثلون حياة الإنسانية أثناء تطورها الدائم وفي دأب جهادها إلى الكمال، إلى هذا الكمال الذي نحاول تصوره ثم يقعد بنا العقل ويقعد بنا الخيال دون شيء من الدقة في إدراكه، وإن نحن جازفنا بتصويره تمهيدا لما نحاول من جهود في سبيله. وهذه سبع وخمسون وثلاثمائة وألف سنة قد انقضت منذ هجرة النبي العربي من مكة إلى يثرب والناس في مختلف العصور يزدادون في القتال افتنانا وفي صنع آلاته الجهنمية المدمرة دقة وإتقانا. وما تزال كلمات نبذ الحرب وإلغاء التسلح والتحكيم لا تزيد على أنها كلمات تقال في أعقاب كل حرب تنهك الأمم، أو على أنها دعايات تلقى في جو الحياة من أناس لم يستطيعوا حتى اليوم - ممن يدري؟! فلعلهم لا يستطيعون يوما - أن يحققوا منها شيئا، وأن يحلوا السلام الصحيح؛ سلام الإخاء والعدل، محل السلام المسلح نذير الحرب وطليعة ويلاتها.

والإسلام ليس دين وهم وخيال، ولا هو دين يقف عند دعوة الفرد وحده إلى الكمال، إنما الإسلام دين الفطرة التي فطر الناس جميعا عليها أفرادا وجماعات، وهو دين الحق والحرية والنظام. وما دامت الحرب في فطرة الناس، فتهذيب فكرتها في النفوس وحصرها في أدق الحدود الإنسانية هو غاية ما تحتمل فطرة البشر، وما يحقق للإنسانية اتصال تطورها في سبيل الخير والكمال. وخير تهذيب لفكرة الحرب ألا تكون إلا للدفاع عن النفس وعن العقيدة وعن حرية الرأي والدعوة إليه، وأن ترعى فيها الحرمات الإنسانية تمام الرعاية. وهذا ما قرر الإسلام على ما رأينا وما سنرى من بعد. وهذا ما نزل به القرآن، وضعناه وسنضعه تحت نظر القارئ في الأحوال والمناسبات التي نزل فيها.

نامعلوم صفحہ