حیات مسیح
حياة المسيح: في التاريخ وكشوف العصر الحديث
اصناف
2 «إنجيل الناصري يعاد» تأليف روبرت جريفس وجوشيا بردو، وكلا الكتابين مؤلف باللغة الإنجليزية.
وندع التخمينات الملفقة التي تتخلل الكتابين، وينبغي أن نذكر - بداءة - أنها تخمينات كثيرة، وأنها في بعض الأحايين تخمينات معتسفة يعترف المؤلفون باضطرارهم إليها؛ لإتمام الحلقات المفقودة في السلسة التي سبكوها من بقايا الأسانيد المختلفة منذ القرن الأول للميلاد، ومن صنع خيالهم في مواقع النقص المعترضة في فجوات تلك الأسانيد. ولا ننسى أن أحد المؤلفين - روبرت جريفس - قصاص يعتمد على التصور الفني في التوفيق بين الأخبار وتنسيق الملامح وملاحظة التناسب بين ألوان الشخصيات، وله قصة في الموضوع نفسه سماها «عيسى الملك» يشرح فيها بالأسلوب الروائي نظريته التاريخية عن سيرة السيد المسيح، وزبدتها أن السيد المسيح قد نشأ برعاية هيئة باطنية كانت تعمل لتعجل الخلاص على يد الملك «المسيح» الذي يأتي من ذرية داود لإنقاذ شعب الله المختار، وأن يوحنا المعمدان هو الذي وكل إليه اختيار المسيح المنتظر على حسب العلامات المحفوظة في النبوءات، فاختاره وعاهده وبايعه «ملكا» مسيحا أي ممسوحا بالزيت المقدس على سنة الملوك المختارين من الأقدمين، وأن زعماء الهيكل لم يكونوا جميعا من المطلعين على سر هذه المبايعة التي جمعت بين يمين الإيمان ويمين الطاعة، وتولاها المشرفون على تنفيذها وهم حذرون من سلطان رومة ومن سلطان الهيكل في وقت واحد، ثم جرت الحوادث مجراها الذي نعلمه من الأناجيل، مزيدا عليها هنا وهناك حلقات تربط الصلة بين التاريخ الظاهر والتاريخ الباطن كما جمعه المؤلف من أسانيده ومن وحي خياله أو تنسيق فنه وتقدير ظنه، وربما زاد الجانب المضاف هنا وهناك على الجانب الأصيل.
ونحن ندع هذه التخمينات، ونجتهد في حذفها كما اجتهد المؤلف الروائي في إضافتها، ولكننا لا نريد أن نحذفها، حيث تترك الفراغ بعدها أدعى إلى الحيرة والتردد من الإثبات.
وصفوة ما يبقى بعد حذف هذه التخمينات أن الدعوة المسيحية بعد السيد المسيح كانت ترجع إلى مركزين: أحدهما برئاسة جيمس (أي يعقوب) المسمى بأخي الرب، ومقره بيت المقدس؛ والثانية برئاسة بولس الرسول ومريديه، ومقرها خارج فلسطين بعيدا عن سلطان هيكل اليهود. وقد كانت شعبة بيت المقدس أقرب إلى المحافظة والحرص على شعائر العهد القديم، ملحوظة المكانة في العالم المسيحي داخل فلسطين وخارجها من بلاد الدولة الرومانية، كما يظهر من وصاياها ومن أجوبة المسيحيين في الخارج عليها، وكلها وصايا تحث على رعاية الشعائر الإسرائيلية كما تقدمت في النبوءات.
وظلت الرئاسة على العالم المسيحي معقودة لهذه الشعبة المقيمة في بيت المقدس حتى تهدم الهيكل، وتقوضت مدينة بيت المقدس، وتبددت الجماعة في أطراف البلاد، وآلت قيادة الدعوة إلى الشعبة التي كانت تعمل في خارج فلسطين، فكان لذلك أثر كبير في أسلوب الدعوة، وفي اختيار وسائل الإقناع، إذا اختلف الأسلوبان بين الخطاب الموجه إلى اليهود وحدهم، والخطاب الموجه إلى الأممين النافرين من اليهود، فبينما كان الخلاص على يد فرد من بني إسرائيل لإنقاذهم دون غيرهم أمرا مفروغا منه بين اليهود، كان العالم الخارجي بحاجة إلى صفات إلهية في الرسول المخلص يقبلها الأمميون، ولا يتقيدون في قبولها بالشروط والعلامات التي يلتزمها المتشبثون بحرف الناموس، وقد كانت كتابة الأناجيل في وقت يوافق هدم الهيكل وتفرق الشعبة المقيمة ببيت المقدس، فوضحت فيها دلائل الدعوة كما تولاها المبشرون بها في بلاد الأممين ، وغلبت فيها الصفة الإلهية على غيرها من الصفات المسموعة في جدار الهيكل، قبل إلحاح الحاجة إلى تدوين الأناجيل، وإن المؤلفين ليطنبوا إطنابا كبيرا في ترديد الكلمات الإنجيلية التي تدل على اعتصام السيد المسيح بكتب التوراة، وتوصية التلاميذ باتباعها على سنة الفريسيين، وأشهر هذه الكلمات قوله للتلاميذ والجموع كما جاء في الإصحاح الثالث والعشرين، من إنجيل متى: «إنه على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون، فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وتعلموه، ولكن حسب أعمالهم لا تفعلوا، لأنهم يقولون ولا يفعلون.»
ومن تلك الكلمات قوله كما جاء في الإصحاح الخامس: «لا تظنوا أنني جئت لأنقص الناموس أو الأنبياء، وما جئت لأنقص بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل ...»
ومنها قوله كما جاء في الإصحاح العاشر: «إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة السامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة.»
ومنها قوله كما جاء في الإصحاح الخامس عشر: «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ...» إلى أقوال أخرى تفهم في مضامينها إن لم تفهم من لفظها الصريح كما في هذه الأقوال.
رد وتعقيب
وعندنا أن المؤلفين أصحاب هذه النظرية في غنى عن العناء والعنت في تأويل الكلمات أو التنقيب عن الصحائف المطوية، إذا كان قصاراهم أن يثبتوا أن الدعوة المسيحية ابتدأت بتوجيه الخطاب إلى الأمة التي تدين بالتوراة وتترقب ظهور المسيح المخلص من بين أبنائها، وأنهم كذلك في غنى عن العناء والعنت إذا أرادوا أن يثبتوا أن القائمين بدعوة الأمم قد اتخذوا لهم أسلوبا في الدعوة غير الذي يتفاهم عليه بنو إسرائيل الذين يقرءون الكتب ويعتقدون بما فيها من النبوءات، وأن رسل الدعوة المسيحية إلى الأمم قد وصفوا السيد المسيح بصفات لم يتصف بها السيد المسيح في كلامه الذي نقلته عنه الأناجيل.
نامعلوم صفحہ