الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
حياة الحياة
حياة الحياة
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
(المنظر: المسرح مقسم إلى قسمين: حجرة هي جزء من بيت، والقسم الثاني مقهى في عهد هارون الرشيد، الوقت في الفجر، المسرح مضاء إضاءة باهتة، يسمع صياح الديك والأذان فيستمر الصمت حينا ثم تخرج السيدة جمالات، وهي سيدة في منتصف العمر، يبدو عليها أنها كانت نائمة، تتقدم إلى النوافذ فتفتحها، فتضيء الحجرة بعض الشيء والأذان مستمر. المفروض في هذا الفصل أن يكون عبور الناس على المقهى مستمرا طوال الفصل بشكل قوي وملموس بحيث لا تكاد تمر دقيقة دون أن يمر عابر سبيل مرورا سريعا فيه لهفة وقلق واهتمام وإصرار، ويحسن أن يكون هؤلاء المارة لهم علامات مميزة في ملابسهم.)
جمالات :
الله أكبر الله أعظم، صبحنا وصبح الملك لله، يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، (وتفتح دولابا وتخرج منه بعض الخبز وبعض أطباق تضعها على المائدة)
يا قمر، قمر، قومي يا بنتي ساعديني. قمر! قمر! (وتدخل قمر إلى المسرح وهي تغالب النوم.)
قمر :
نعم يا أم.
جمالات :
ساعديني يا بنتي.
قمر :
فيم أساعدك يا أم؟
جمالات :
يوه! ألا تعرفين فيم؟ جهزي معي الفطور لأبيك.
قمر :
يا أم توكلي على الله. وهل هناك فطور حتى أجهزه؟!
جمالات :
لماذا؟ البيت عامر والحمد لله. هل جعت يوما؟!
قمر :
يا أم الجوع هو الأكل الذي نأكله.
جمالات :
يا بنتي قولي يا فتاح يا كريم. الأكل ملء البيت.
قمر :
أين يا أم الأكل؟ أتسمين هذا أكلا؟!
جمالات :
ماذا أسميه إذن؟!
قمر :
وتريدين أن أساعدك أيضا! بالذمة فيم أساعدك؟! لقد جهزت أنت كل شيء في غمضة عين.
جمالات :
وماله، قفي معي وتظاهري بأنك تخدمين أباك. الرجال يحبون أن يروا نساء بيوتهم يخدمن طلباتهم. اعملي كأنك تجهزين الأكل وكأنك مشغولة يفرح بك أبوك وأفرح أنا أيضا.
قمر :
آه! هذا ما تريدين إذن.
جمالات :
وهل هذا قليل؟
قمر :
قولي إذن هذا ولا تقولي جهزي الفطور؛ فإن الفطور دائما لا يحتاج إلى تجهيز.
جمالات :
يا أختي من يسمعك تقولين هذا الكلام يحسب أنك تطمعين في عيشة القصور.
قمر :
يا أم توكلي على الله، ما لنا وما للقصور؟
جمالات :
تحبين فتى معدما لا يحمل إلا الكلام المزوق.
قمر :
وماله يا - أم - إسماعيل؟ أليس يعمل في ديوان الخليفة؟
جمالات :
كاتب.
قمر :
وما عيب الكاتب؟
جمالات :
بائع كلام.
قمر :
ولكنه كلام جميل.
جمالات :
يصنعه بأمر رئيس الديوان ثم لا يكسب إلا بضعة دراهم.
قمر :
نعمة.
جمالات :
دراهم إسماعيل نعمة وأكلنا لا يعجبك.
قمر :
وهل قلت إن أكلنا لا يعجبني؟
جمالات :
فماذا كنت تقولين من الصبح؟
قمر :
كل ما قلت إن الأكل عندنا لا يحتاج إلى تجهيز.
جمالات :
غدا نرى الأكل في بيتك.
قمر :
لن يكون أحسن من بيتك.
جمالات :
فلماذا يا بنتي تصرين على هذا الزواج من هذا الفتى المنكود؟! بذمتك ما الذي يعجبك فيه؟
قمر :
هو.
جمالات :
نعم؟!
قمر :
يعجبني هو ... هو بكل شيء فيه ... طيب يحب الخير للناس، ولا يفكر إلا في خير الجميع.
جمالات :
كسبنا صلاة النبي! وهل يملك الخير لنفسه حتى يقدمه للجميع؟! أقرع ونزهي!
قمر :
ليس المهم أن يقدم الخير للجميع، إنما المهم أن يحب الخير لهم.
جمالات :
ومن أدراك أنه يقدم الخير لأحد إذا أصبح غنيا؟ هذا يا بنتي كلام الفقراء يقولونه؛ لأنهم لا يملكون ما يعطونه، أما إذا شبع فعلى حب الخير السلام.
قمر :
لا يا أم، إنه ليس كذلك.
جمالات :
ليس كذلك! وكيف عرفت؟
قمر :
لقد كان غنيا وظل يوزع أمواله على الناس.
جمالات :
حتى أصبح على الحديدة؛ خائب ... لو كان ذكيا لاستثمر هذا المال، ثم أعطى منه للفقراء.
قمر :
نعم. لعلي أوافقك على هذا. ليس إسماعيل ذكيا في معاملة الأموال ولكنه طيب.
جمالات :
وماذا ستفعلين بهذه الطيبة؟
قمر :
أعيش في ظلها، أتمتع بروحه الحلوة.
جمالات :
وتجوعين؟
قمر :
لن أجوع. ثم إنني يا أم تعودت على الجوع في بيتنا. لن تكون حياتي شرا مما هي الآن.
جمالات :
وهذا سبب يجعلك تقبلينها! يا بنتي أنت جميلة، وألف يتمنى أن تكوني في بيته. طاوعيني يا قمر!
قمر :
يا أم أهذا كلام يقال على الصبح؟
جمالات :
يا بنتي وهل لنا في الدنيا إلا أنت؟
قمر :
على كل حال الأمر أمر أبي.
جمالات :
أبوك فرحان بوظيفة إسماعيل.
قمر :
أنا لا أعصي أمر أبي.
جمالات :
لا تطمئني كل الاطمئنان إلى رأي أبيك.
قمر :
ماذا تقصدين؟
جمالات :
لا شيء، ولكن لاحظي دائما أنه لم يتقدم لك حتى الآن خير من إسماعيل.
قمر :
تقصدين أنه لو ...
جمالات :
أنا لا أقصد شيئا. هيا نادي أباك ليتناول فطوره. (يظهر في المقهى عمارة صبي المقهى ويبدأ برفع الكراسي وإعداد المقهى لاستقبال الزوار.)
عمارة :
نرفع الكراسي وننظف المناضد ونعد الفناجين، والذي نبيت فيه نصبح فيه، والأرزاق على الله ... (يغني):
ولقد قالت لجارات لها
إذ تعرت ذات يوم تبترد
أكما ينعتني تبصرني
عمركن الله أم لا يقتصد
لا يقتصد يا ستي لا يقتصد. وهل هناك شاعر يقتصد؟! لا يقتصد، ولماذا يقتصدون؟ هل يدفعون في الكلام فلوسا؟ كله مجانا، وهات يا شعر ورص يا شاعر؛ فلماذا يقتصد؟ (يعود إلى الغناء):
فتضاحكن وقد قلن لها
حسن في كل عين من تود
معلوم ... حسن في كل عين من تود. لو لم يكن حسن في كل عين من تود كانت قمر تحب إسماعيل! إنما حسن في كل عين من تود. والله كلام حكم ... قل يا سيدي قل، آه يا كلام! وهل شفنا المصائب إلا من الكلام. إسماعيل يتكلم وقمر تحب، ورحنا نحن في داهية ... والصفقة خاسرة بإذن الله. (يترنم بالغناء دون أن يتكلم.)
جمالات :
يا بنتي نادي أباك! لم تكن كلمة هذه.
قمر :
يا أم، لقد خوفتني حتى أكاد أموت.
جمالات :
لماذا؟
قمر :
ألم تقولي إن أبي قد يغير رأيه؟
جمالات :
أكل هذا من أجل إسماعيل؟
قمر :
القلب وما يهوى يا أم.
جمالات :
هوى الشوم واللوم. لو كان غنيا! لو كان أنيقا! لو كان جميلا!
قمر :
لا يا أم، لا حق لك، هل رأيت في حياتك أجمل من إسماعيل ؟
جمالات :
إسماعيل جميل؟!
قمر :
في عيني أنا ليس أجمل منه.
جمالات :
عمى في عينك؛ فأنت إذن لا ترين أحدا.
قمر :
يا أم، أنا أرى من الرجال أكثر مما ترى بنات بغداد جميعا. المقهى تعرض علي في كل يوم أشكالا وألوانا.
جمالات :
وكل من ترينهم في المقهى إسماعيل أجمل منهم؟!
قمر :
في مرة رأيت رجلا غنيا، أنيق الهندام، عظيم الشكل، مهيب الطلعة، فرحت أقارن بينه وبين إسماعيل.
جمالات :
وماذا كانت نتيجة المقارنة؟
عمارة (مغنيا) :
حسن في كل عين من تود ... حسن في كل عين من تود.
قمر :
قلت هذا غني وإسماعيل فقير، هذا وجيه وإسماعيل (تصمت قليلا) ، شاب لا يعتني بالوجاهة، هذا شاب وإسماعيل أيضا شاب، هذا لا أعرف عنه شيئا وإسماعيل طيب.
جمالات :
إذن فالرجل الآخر أحسن.
قمر :
أبدا.
جمالات :
كيف؟
قمر :
إسماعيل هو من أحب ... أتعرفين يا أم معنى كلمة أحب؟ أحب ... هذه الكلمة البسيطة التي جعلت ليلى العامرية تعيش حتى الآن، وجعلت لبنى تحيا معنا كأنها في عصرنا هذا، وجعلت بثينة واحدة من جيلنا ومن كل الأجيال التي سبقتنا حتى الآن، وجعلت عزة، أتعرفين يا أم عزة؟
جمالات :
حبيبة كثير.
قمر :
أتعرفين كثير يا أم؟
جمالات :
لا أطيق الشعر ولا الشعراء.
قمر :
أنا أتكلم عن كثير الرجل، أتعرفينه يا أم؟
جمالات :
وهل رأيتني أقرأ أو أكتب؟!
قمر :
أعرف أنك لا تقرئين ولا تكتبين، ولكن ألم تسمعي عنه؟
جمالات :
منك نستفيد.
قمر :
كان كثير قصيرا قبيحا دميما.
جمالات :
وبعد؟
قمر :
ومع ذلك فقد أحبته عزة أشد من حبه لها.
جمالات :
كان شاعرا وكانت البنات في ذلك الحين عقولهن فارغة ويفرحن بالشعر. أما إسماعيل - اسم النبي حارسه - لا يستطيع أن يكمل بيتا من الشعر.
قمر :
ليس المهم الشعر.
جمالات :
يا بنتي هل جئت بسيرة الشعر؟! ألست أنت التي ...؟!
عمارة (مقاطعا) :
حسن في كل عين من تود ... حسن في كل عين من تود.
قمر :
المهم هو الحب الذي جعل هؤلاء الشعراء يقولون ... إن الشعر الذي قالوه يا أم هو الكلام الذي أراد المحبون في كل زمان ومكان أن يقولوه فقاله عنهم هؤلاء الشعراء. الحب يا أم هو الذي جعل هؤلاء الشعراء ينطقون.
جمالات :
يا أختي لا تقلقيني ... أي شعر وأي كلام فارغ، ألم تري الشاعر نور الدين ملقى على المقهى ليل نهار يكتب الشعر في مدح الخليفة ثم يكاد يموت من الجوع؟
قمر :
ولكنه سعيد.
جمالات :
سعيد؟! أهذا البائس الشحاذ سعيد؟! فمن إذن التعيس؟!
قمر :
الناس جميعا إلا هو، إنه حين يكتب شعره يصبح أسعد الناس جميعا.
جمالات :
يا أختي ومن أدراك؟! فهل كتبت الشعر أنت أيضا؟!
قمر :
أعرف أعرف، انظري إلى نور الدين.
جمالات :
منجوس ومنحوس من يومه.
قمر :
هذا في رأيك أنت، أما إذا نظرت إلى حقيقته ... إلى مقدار السعادة التي يعيش فيها.
جمالات :
مهرج. أهذا ما يعجبك فيه؟! مهرج.
قمر :
بل سعيد، شخص سعيد يحب أن يستقبل الحياة بالضحك دائما.
جمالات :
وهو مفلس؟!
قمر :
وما يهمه؟
جمالات :
يترك أولاده جياعا عرايا وهو يضحك.
قمر :
فهل إذا حزن يأتي لهم بالطعام والملبس؟!
جمالات :
على الأقل يصحو إلى خيبته ... يبكي على حاله.
قمر :
إنه لو فعل لامتنع الأكل عن أولاده العمر كله.
جمالات :
لا يا شيخة؟!
قمر :
وحياتك.
جمالات :
وكيف هذا وحياة أمك؟
قمر :
إنه شخص يعتمد على صفاء روحه ... على روحانيته، لو أصبحت روحه مظلمة، لامتنع عليه أن يكتب شعرا في مدح الخليفة، ولأقفل في وجهه باب الرزق الوحيد.
جمالات :
ألا يكتب شعرا إلا إذا ضحك؟
قمر :
الشعر الذي يعجب الخليفة لا بد أن يضحك صاحبه، لو أنه حزن وكتب الشعر لغضب عليه الخليفة، ومنع عنه الرزق.
جمالات :
والنبي يا بنتي رزق الهبل على المجانين، صدق من قال ... نادي أباك.
قمر :
يا آبا (تخرج من المسرح) . (يظل عمارة ينظف في المقهى مغنيا، يدخل بعض أفراد للمسرح ويعبرونه إلى الباب الآخر، يدخل أبو الحسن والد قمر.)
أبو الحسن :
يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم! هيه يا قمر، هل الفطار جاهز؟
قمر (تدخل خلفه) :
جاهز من الصبح يا أبي .
أبو الحسن :
اطلعي إلى المقهى، شوفي إن كان عمارة أحسن تنظيفها أم لا.
قمر :
أمرك يا أبي! ألا تريد شيئا؟
أبو الحسن :
سلامتك. (تخرج إلى المقهى - يزداد النور في المقهى ويخفت في البيت.)
قمر :
صباح الخير يا عمارة.
عمارة :
صباح النور يا ست الحسن والجمال.
قمر :
هل نظفت المقهى؟
عمارة :
أصبحت كالفل أو كالياسمين ... من الصبح أنظف فيها وحياتك إن لم تكن مقهاك أنظف مقهى في بغداد، فأنا أستحق الضرب والإهانة.
قمر :
وأين الزبائن؟
عمارة :
لم يأتوا بعد. نحن ما زلنا في أول النهار.
قمر :
وأين الشيخ الذي أصبح يفتتح المقهى كل يوم؟
عمارة :
موعده لم يأت بعد. اسكتي، عرفت من هو.
قمر :
صحيح؟
عمارة :
وحياتك.
قمر :
من؟
عمارة :
تاجر من أكبر التجار، غني ... غناه فاحش.
قمر :
وماذا يريد من مقهانا؟
عمارة :
الله! تعجبه المقهى. ألا تعجبك المقهى؟
قمر :
فقط، ألا يأتي إلى هنا لأن المقهى تعجبه؟!
عمارة :
وماذا في هذا؟
قمر :
ولد يا عمارة، تخفي شيئا؟
عمارة :
الحقيقة نعم. أخفي شيئا.
قمر :
وما هو؟
عمارة :
الشيخ يحبك.
قمر :
وهل رآني؟
عمارة :
وهل يأتي هنا إلا لأنه رآك؟
قمر :
هل جننت؟
عمارة :
وإن جئت للحق، وسطني، لأكلم عم أبا الحسن.
قمر :
وهل كلمته؟
عمارة :
وهل يعقل أن أفعل هذا دون أن أسألك؟
قمر :
ألا تعرف جوابي؟
عمارة :
أعرفه.
قمر :
فلماذا تسألني إذن؟! (يمر بائع أشياء قديمة بالمقهى ينادي.)
البائع :
تحف وهدايا، تحف، هدايا وتحف، هدايا.
عمارة :
يا عم، يا عم، هل أصابك العمى في نظرك؟! هل ترى أحدا في المقهى حتى تنادي؟! قل يا صبح يا راجل وتوكل على الله.
البائع :
يا بني هذا عملي؛ علي أن أنادي والباقي على الله.
عمارة :
ألا تنتظر حتى تجد أحدا تنادي له، أم هو نداء والسلام؟
البائع :
عملي يا ابني؛ عملي أن أنادي. تحف وهدايا تحف. (يخرج من الباب الآخر.)
عمارة :
لعلك تغيرين رأيك. هل في هذا بأس؟ الواجب أن أسألك.
قمر :
اسمع، لك مني دينار ولا تقل لأبي شيئا.
عمارة :
لقد عرض هو عشرة دنانير؟
قمر :
ومن أين لي بالعشرة دنانير؟
عمارة :
من إسماعيل.
قمر :
أنت أعلم بالحال.
عمارة :
فلماذا تحبينه إذن؟! قسما عظما بالله إني أكسب أكثر منه. أيعجبك منه الحديث المزوق، وقوله كنت مع الخليفة وجئت من عند الخليفة؟! أهذا كل ما يعجبك منه؟!
قمر :
ولد يا عمارة!
عمارة (في ثورة هينة) :
ألا تقول الحق؟! الحق دائما ابن كلب يزعل الناس.
قمر :
ولد.
عمارة :
سكتنا، ماذا قلت في الدنانير؟
قمر :
أعطيك كل شهر دينارا.
عمارة :
على عشرة أشهر؟! لماذا؟! ما الذي يجعلني أنتظر عشرة أشهر؟! وراءنا مصاريف يا ست قمر والحال كما تعلمين.
قمر :
أعطيك كل شهر دينارين.
عمارة :
لا بأس من أجل خاطرك.
قمر :
على شرط.
عمارة :
وشرط أيضا!
قمر :
تقول لهذا الرجل إني مخطوبة، ولا تجعله يأتي إلى هذا المقهى أبدا.
عمارة :
وأطرد الزبائن أيضا؟!
قمر :
هذا الزبون فقط. لو عرف أبي بغناه صمم على زواجي منه. هيه ماذا قلت؟
عمارة :
ولو عرف أني طردته طردني أنا وأصبحت بلا عمل.
قمر :
وهل ستطرده؟
عمارة :
ألست تريدينني أن أطرده؟!
قمر :
أنا لم أقل هذا. كل ما في الأمر أنك ستقول له إنني مخطوبة، وأن خطيبي رجل قاتل سفاك لا يتورع عن قتله لو عرف أنه يريد أن يتزوجني ... و... فقط.
عمارة :
لا، بسيطة؛ فكيف يكون الطرد إن لم يكن هكذا؟!
قمر :
إذن، فماذا ترى؟
عمارة :
سأقول له إنك مخطوبة، بالله ما الذي يعجبك في إسماعيل؟!
قمر :
لا شأن لك، ماذا ستقول للتاجر؟ (يدخل إسماعيل إلى المسرح.)
عمارة :
و... و... يا أهلا بالسيد إسماعيل، يا أهلا بالكرم والذوق والكياسة والرياسة.
إسماعيل :
كيف أنت يا عمارة؟ صباح الخير يا قمر.
عمارة :
أهلا، أهلا.
قمر :
كفى يا عمارة! كفى! اذهب.
عمارة :
أذهب! أذهب هكذا دون أن أعرف ماذا يريد السيد السند؟
قمر :
أهو زبون؟
عمارة :
طبعا.
قمر (تلتفت إلى إسماعيل) :
هل أنت زبون؟!
إسماعيل :
طبعا.
قمر :
هل جننت يا عمارة؟
إسماعيل :
لماذا؟
قمر :
ألا تعرف مكانه من البيت؟
عمارة :
مكانه من البيت أعرفه، إنما المقهى مقهى وليست بيتا.
قمر :
هل جننت؟
عمارة :
والله إن جئت للحق نعم.
قمر :
ولد.
عمارة :
يا ست قمر، خلي الطابق مستورا.
قمر :
هذا لا يصح أبدا.
عمارة :
وأنا ما ذنبي؟
قمر :
أتقصد أن ...
عمارة :
نعم.
قمر :
أبي.
عمارة :
أبوك يذبحني إن خرج طلب ولم يدفع ثمنه.
قمر :
هل سألته عن إسماعيل؟
عمارة :
من غير سؤال، نبه علي ألا أسأله.
إسماعيل (وقد كان يضحك طوال فترة الحديث) :
ماذا جرى يا قمر، هي الحكاية تستحق كل هذا الاهتمام؟
قمر :
المسألة مسألة أصول.
إسماعيل :
الأصل أن أدفع ثمن ما أريد في المقهى.
عمارة :
أبو الأصول أنت والله، أبو الأصول يا سيد إسماعيل يا عترة.
إسماعيل :
هات فنجان قهوة يا عم عمارة.
عمارة :
شفت. وأنت ألا تريدين شيئا.
قمر :
امش يا لكع. (يذهب عمارة إلى المكان الذي تعد فيه الطلبات.)
إسماعيل :
صباح الخير.
قمر :
لم تذهب اليوم إلى الديوان.
إسماعيل :
ليس عندنا عمل اليوم، قلت أنتهز فرصة الصباح والمقهى خالية لعلي أقعد معك على انفراد.
قمر :
خير ما فعلت. لقد كنت فعلا أريد أن أراك.
إسماعيل :
أيأتي عليك وقت لا تريدين فيه أن تريني؟!
قمر :
لا أدري، ولكني اليوم فعلا كنت أريد أن أراك.
إسماعيل :
قولي لي يا قمر، لماذا أجد كل الكلام الذي قيل في الحب قديما لا جدة فيه ولا طرافة؟! كلما أردت أن أقول لك كم أحبك وجدت كلامي سخيفا لا يليق بك.
قمر :
ألهذا لم تقل لي أحبك أبدا؟!
إسماعيل :
أرجو أن تعرفي مقدار حبي من تصرفي لا من كلامي.
قمر :
وما عيب الكلام؟! أليس صناعتك؟
إسماعيل :
هذه هي المصيبة؛ لا أحب أن أصنع لك الكلام.
قمر :
ولكني أحب أن أسمعه منك.
إسماعيل :
حتى ولو كان كلاما قديما قاله الناس قبلنا ملايين المرات؟
قمر :
نعم.
إسماعيل :
قاله المنافق والكذاب، وقاله المتكلف، وقاله السخيف الذي يريد أن يخدع فتاة لا يحبها.
قمر :
أحب أن أسمعه منك.
إسماعيل :
ولكن أنا لا أحب أن أقوله لك.
قمر :
إذن فإنك لا تحبني.
إسماعيل :
ماذا؟
قمر :
فلماذا لا تقول؟
إسماعيل :
لأنك عندي أكبر من أن أقول لك أحبك! أنت أكبر من كلمة الحب ومن معنى الحب! أنت حياتي التي تحيا بها حياتي! أنت ...
قمر :
اسكت، لا تقل أكثر من هذا؛ هذا ما كنت أريد أن أسمع.
إسماعيل :
أكنت محتاجا لأن أقول هذا، حتى تعرفي مقدار حبي؟
قمر :
لا، ولكن كنت أنا محتاجة لأن أسمع منك هذا.
إسماعيل :
لماذا؟
قمر :
لا أدري؛ فقد كنت أريد أن أسمع هذا.
إسماعيل :
يا حبي، يا قمر الزمان.
قمر :
يا حبي يا إسماعيل.
عمارة :
القهوة.
إسماعيل (وكأنه صحا من حلمه) :
ماذا؟ آه! شكرا.
عمارة :
عفوا (ويظل واقفا) .
قمر :
قال لك شكرا.
عمارة :
وأنا قلت عفوا.
قمر :
فماذا تنتظر؟! لقد قال لك شكرا.
عمارة :
فقط شكرا هذه لا أستطيع أن أضعها في حساب أبيك.
إسماعيل :
آه! صحيح، خذ.
قمر :
وماذا تريد أكثر من هذا؟
عمارة :
شكرا، هذا حساب القهوة.
إسماعيل :
آه صحيح، خذ يا عمارة وهذا لك.
عمارة (يأخذ ما يعطيه له إسماعيل ويطبق عليه يده، ويقول في استنكار) :
شكرا (وينصرف)
حسن في كل عين من تود.
إسماعيل :
لعن الله الفقر يا قمر.
قمر :
غنى النفس هو كل شيء، وأنت يا إسماعيل أغنى الناس نفسا.
إسماعيل :
هذا كلام اخترعه الشعراء؛ لأنهم فقراء.
قمر :
ولكنه كلام صادق.
إسماعيل :
لو كان صادقا، لأحبني عمارة، ولكنه لا يحبني.
قمر :
ألا يكفي أن أحبك أنا؟
إسماعيل :
إن حبك لي هو النور الذي يضيء لي جنبات الحياة.
قمر :
ألا يكفي هذا؟
إسماعيل :
لا، لا يكفي.
قمر :
ألا يكفي أن يكون لك نور يضيء لك جنبات الحياة؟!
إسماعيل :
في هذا النور أسير، وفي سيري أرى الناس فقراء تأكلهم الحياة أكلا، وتطحنهم بأيامها طحنا عنيفا قاسيا، وينظرون إلي يريدون أن أعينهم، وأنا لا أقدم لهم إلا ما عندي من حيث طيب، ومن مشاركة في آلامهم، ولكنهم أبدا لا يريدون هذا. إنهم يريدون من يرفع عن أعناقهم أظافر الفقر المفترسة السفاكة، فلا يهمهم حديثي في شيء ، ولا يحبونني؛ فالفقراء لا يحبون الفقراء يا قمر الزمان، والأغنياء أيضا للأسف لا يحبون الفقراء.
قمر :
قد يعطفون عليهم.
إسماعيل :
الفقر يلهي الناس عن كل العواطف يا قمر الزمان. الفقير يريد أن يطمئن على قوت يومه وغده، وهو أبدا لا يستطيع أن يطمئن. هو في خوف من غده دائم، وإذا تسلط الخوف على النفس فهي هباء. لا يستطيع الإنسان أن يعمل وهو خائف يا قمر الزمان.
قمر :
ولكن لعل الخوف هو الذي يجعله يعمل.
إسماعيل :
إذا اطمأن الناس عملوا، وإذا أحاط بهم الذعر انهارت منهم العزائم.
قمر :
ولكن الناس يعملون.
إسماعيل :
يعملون بجزء من عقولهم يسير، أما الجزء الأكبر من نفوسهم وعقولهم فحبيس الخوف والذعر والقلق من الغد ومن الفقر.
قمر :
هكذا الحياة.
إسماعيل :
يجب أن تتغير الحياة. يجب أن يطمئن الناس؛ سترينهم حينئذ يعملون أعظم الأعمال وأروعها.
قمر :
إن لك أفكارا عجيبة.
إسماعيل :
وما فائدة الأفكار؟
قمر :
تجعلني أحبك.
إسماعيل :
ولكنها لا تجعلني أحصل لك على المهر!
قمر :
إن هذه الأفكار تجعلك بين الناس منفردا، ليس للناس فيهم مثيل.
إسماعيل :
ولكنها لا تغني الناس ولا تجعل الفقراء يحبونني، بل هي حتى لا تجعلني أحترم نفسي ... مجرد أفكار، فقاعات في المخ، فقاعات من الهواء، تأتي وتقال ثم تمضي بلا أثر.
قمر :
ولكن جميع ما حققته الحياة كان نتيجة هذه الأفكار.
إسماعيل :
وما الذي حققته الحياة؟! هذا الخوف للناس وهذا الفقر، وهذا الذعر، وهذا الكره؟ ماذا حققت الحياة للناس؟!
قمر :
إسماعيل! إني أحبك.
إسماعيل :
مع أني فقير، ولا أستطيع أن أقدم لأبيك المهر الذي يريد لنتزوج.
قمر :
ولكني أحبك.
إسماعيل :
أرى الناس وأشقى بشقائهم، وأتذكر حبك فكأنما ألقى واحة في صحراء الشتاء، وأقول في نفسي ولكن الناس ليس لهم واحة مثل واحتي فأعود إلى الشقاء.
قمر :
يشغلك الناس عن نفسك!
إسماعيل :
إذا عشت معهم ولم أنشغل بهم فالحيوان أعظم مني شأنا.
قمر :
ولكن أحدا من الناس لا ينشغل بالناس مثلما تفعل.
إسماعيل :
لا أدري، ولكن لعل حبي للشعر وللجمال يجعلني أتمنى أن أرى الجمال في الناس.
قمر :
وهل لهذا وسيلة؟
إسماعيل :
لا بد أن هناك وسيلة.
قمر :
أتعرفها؟
إسماعيل :
لو عرفتها ما شقيت.
قمر :
أرى أحدهم قاصدا إلى المقهى. أراك بخير.
إسماعيل :
أراك بخير. (يدخل رجل تبدو عليه مظاهر الثراء، ويجلس إلى منضدة وينادي.)
الزبون :
يا عمارة.
عمارة :
لبيك! لبيك يا سيدي وسعديك!
الزبون :
هل أعددت لي القهوة؟
عمارة :
من الصبح.
الزبون :
هاتها، لا عدمتك. (يأتي عمارة بالقهوة ويضعها على المنضدة ويدور حول الرجل فينظر هذا إليه بعض الحين.)
الزبون :
تريد أن تقول شيئا؟
عمارة :
حديث بيننا لم يتم.
الزبون :
أعرفه.
عمارة :
لا بد للحديث أن يتم يا مولانا.
الزبون :
فليتم الحديث.
عمارة :
قلت لي إنك تاجر وغني، وقلت لي اطلب قمر الزمان دون أن تذكر اسمك؟
الزبون :
نعم فعلت.
عمارة :
ولكن يا سيدي لا أعرف اسمك.
الزبون :
لا تعرف اسمي؟
عمارة :
ومن أين لي أن أعرفه وأنت لم تقله لي؟
الزبون :
ما توقعت أبدا أن صبيا في مقهى لا يعرف اسم زبون فيها! إن لهم مقدرة لا تتأتى إلا لهم! ما إن يأتي الزبون يوما وثانيا حتى يكون اسمه وعنوانه وعمله وثروته وأولاده وزوجته معروفة للمقهى جميعا.
عمارة :
إلا أنت.
الزبون :
كيف؟
عمارة :
الذي لا شك فيه أنك من مكان في بغداد بعيد كل البعد عن هذه المنطقة، سألت عنك زبائن المقهى أجمعين فما عرفك منهم أحد، أو لعل عملك يتصل بناس لا يجلسون على مثل هذا المقهى.
الزبون :
أحقا؟
عمارة :
وحياة رأسك، إن لك لشأنا لا أدريه.
الزبون :
إذن فأنت لا تعرفني؟
عمارة :
المنطقة كلها لا تعرفك.
الزبون :
وأنت إذن تريد أن تعرف من أنا؟
عمارة :
يا سيدي الناس لا يزوجون بناتهم لعابري السبيل.
الزبون :
إنك تعرف أني تاجر وأني غني.
عمارة :
هراء! من أين لي أن أعرف؟! ألأنك قلت إنك تاجر، وإنك غني تصبح تاجرا وغنيا؟!
الزبون :
وماذا تريدني أن أفعل؟
عمارة :
لا بد أن أعرف عنك كل شيء.
الزبون :
وكيف ستصدقني إن قلت لك؟
عمارة :
الحديث من سياقه يظهر صدقه أو كذبه.
الزبون :
لعلي خبير في الحديث ألفقه كما أشاء فيبدو أشد صدقا من الصدق.
عمارة :
لو كان الصدق فيه واضحا كل الوضوح فهو كاذب أيضا.
الزبون :
أنت محق؛ فالحقيقة دائما تحمل جانبا من الخيال.
عمارة :
الحياة أبرع من يستعمل الخيال في تصرفاتها.
الزبون :
لي حديث طويل.
عمارة :
وماذا وراءنا؟ الزبون الآخر الجالس هناك منا وعلينا، وقد دفع حسابه وبقشيشه الحقير، وليس عندنا عمل والأشيا معدن.
الزبون :
أليس عندك عمل على الإطلاق؟
عمارة :
الآن لا.
الزبون :
ما أسعدك!
عمارة :
علام؟
الزبون :
تملك وقت فراغ.
عمارة :
أراك أكثر فراغا مني.
الزبون :
ألأني أجلس هنا؟
عمارة :
وهل بعد هذا فراغ؟
الزبون :
لا جعل الله أحدا ينشغل كشغلي.
عمارة :
وفيم شغلك، وأنت على المقهى منذ الصباح لا تتركها إلا في الظهيرة؟!
الزبون :
التجارة يا بني شغلها كثير.
عمارة :
أما تزال تعمل في التجارة؟
الزبون :
ليل نهار.
عمارة :
ونهار أيضا؟!
الزبون :
ليل نهار.
عمارة :
يا أخ، هل أنت تعمل بالنهار؟!
الزبون :
أغلب عملي بالنهار.
عمارة :
هنا على المقهى؟!
الزبون :
أي وحياتك.
عمارة :
أعز الله حياتك!
الزبون :
ألا تصدقني؟
عمارة :
وكيف لا أصدقك؟ وهل يصدقك غيري؟ إني أراك كل يوم وأنت تقطع نفسك من الشغل!
الزبون :
أتسخر؟
عمارة :
يا عم أقسم بالله أنني ظننتك تركت التجارة منذ زمن بعيد، وهل يعقل أن يترك تاجر دكانه فترة الصباح جميعا ويجلس إلى المقهى، ويظل مع ذلك يدعي أنه تاجر؟!
الزبون :
وهل قلت إنني صاحب دكان؟!
عمارة :
فأي نوع من التجارة أنت؟!
الزبون :
أنا أعظم التجار شأنا وأعلاهم مرتبة.
عمارة :
تاجر جواهر أنت؟
الزبون :
بل أعظم.
عمارة :
هل هناك أعظم من تجارة الجواهر؟!
الزبون :
تجارتي.
عمارة :
وما هي؟
الزبون :
لا أقولها، لا أستطيع أن أقولها لك.
عمارة :
لعلك تتاجر في ... في ... في المسروقات مثلا؟
الزبون :
أبدا، أبدا.
عمارة :
فأي نوع من التجارة أنت؟
الزبون :
يكفيك أن تعلم أنني أكسب مكاسب لا تخطر لك على بال.
عمارة :
سعيد أنت؟
الزبون :
بل أشقى عباد الله.
عمارة :
مع هذا الغنى؟!
الزبون :
أنا يا بني في رعب دائم، ولا سعادة مع رعب أبدا.
عمارة :
أي نوع من الرعب هذا؟
الزبون :
رعب الأغنياء.
عمارة :
وهل للأغنياء رعب؟!
الزبون :
أشد من رعب الفقراء.
عمارة :
اللهم رعبا كرعب الأغنياء!
الزبون :
اسكت، اسكت فأنت لا تعرف.
عمارة :
فعرفني أنت.
الزبون :
رعب الغني على أمواله وحرصه على الزيادة وخوفه من النقصان.
عمارة :
هذا جنون.
الزبون :
وهل الرعب إلا جنون؟
عمارة :
والخلاصة؟
الزبون :
أي خلاصة؟
عمارة :
ألا تخبرني ما عملك؟
الزبون :
لا أستطيع.
عمارة :
فماذا أقول لعم أبو الحسن؟
الزبون :
تاجر.
عمارة :
تاجر ماذا؟
الزبون :
تاجر وغني.
عمارة :
هذا لا يكفي.
الزبون :
أدفع مهرا ألفي دينار.
عمارة :
ألفي دينار؟! (يدخل إلى المقهى نور الدين الشاعر ويتجه إلى إسماعيل.)
إسماعيل :
أهلا نور الدين، كيف الحال؟
نور الدين :
شر حال.
إسماعيل :
أعوذ بالله هكذا على الصبح، ماذا جرى؟
نور الدين :
وهل يتعبني إلا الصبح يا إسماعيل؟
إسماعيل :
ما عيب الصبح؟
نور الدين :
أمل خائب ويوم جديد بهم جديد.
إسماعيل :
أو يوم جديد بأمل جديد.
نور الدين :
ومن أين الأمل؟! من أين؟! أتصدق بالله بتنا بالأمس من غير عشاء، وكنا في وقت العشاء بغير غداء، وكنا وقت الغداء بغير فطور، وكنا وقت الفطور بغير عشاء ... ساقية يا بني من الجوع، الأيام ساقية تخرج جوعا ... والأولاد أمامي لا أطيق أن أنظر إليهم؛ جياع يا إسماعيل جياع!
إسماعيل :
هذه أول مرة تشكو.
نور الدين :
نعم لم أكن أشكو.
إسماعيل :
كنت في البأس الشديد تضحك، وتكتب الشعر، وتنظر إلى الغد بعين باسمة ... هذه أول مرة تشكو.
نور الدين :
أتعلم لماذا أشكو؟
إسماعيل :
لا.
نور الدين :
أشكو؛ لأنني أصبحت أشكو بدلا من أن أكتب الشعر.
إسماعيل :
لا أفهم.
نور الدين :
كانت لي القدرة دائما أن أفصل بين الشاعر في نفسي والإنسان، فإن رأى الإنسان نفسه جوعان وأولاده وزوجته جياع انفصل عنه الشاعر وكتب شعرا وجاء بالنقود، فيسكت الإنسان وزوجته وأولاده.
إسماعيل :
فماذا جرى للشاعر؟
نور الدين :
تغلب عليه الإنسان.
إسماعيل :
تقصد؟
نور الدين :
أقصد أن الشاعر أيضا أصبح يبكي لجوع أبنائه وزوجته وجوعه.
إسماعيل :
وأين قدرتك على الفصل بين الشاعر والإنسان؟
نور الدين :
لي يومان لم أستطع فيهما أن أكمل بيتين من الشعر.
إسماعيل :
يومان!
نور الدين :
قلت المطلع والشطر الأول من البيت الثاني. (ثم سكت.)
نور الدين :
وقفت أجيل الطرف حولي فراعني
مدامع في عيني لا تتحدر
أهيب بها تهمي فتأبى ترفعا (ثم سكت.)
إسماعيل :
هذا هو الشاعر فيك. لا تخف، فما دمت تحس بالترفع فأنت شاعر وستزول الأزمة.
نور الدين :
يومان والأزمة مستحكمة.
إسماعيل :
وما يومان؟
نور الدين :
اليومان ساعات طويلة من الجوع والألم بجوع أولادك والعجز عن إشباعهم، الساعة في هذين اليومين دهور طويلة، فانظر كم من الدهور مر في اليومين.
إسماعيل :
أعطيك نصف ما معي.
نور الدين :
لا.
إسماعيل :
لماذا؟
نور الدين :
أخاف أن يتعود الشاعر على هذا ولا يقول الشعر بعد ذلك فنموت جميعا من الجوع.
إسماعيل :
إن الشاعر فيك لم يصنع هذا معك إلا مرة واحدة.
نور الدين :
كل عادة تبدأ بمرة واحدة. سلام عليكم.
إسماعيل :
إلى أين؟
نور الدين :
أسير في الطريق حتى أكمل القصيدة.
إسماعيل :
انتظر.
نور الدين :
لا أنتظر، فإنك تغريني، والإنسان والشاعر في ضعيفان ... لا، لا أنتظر، سلام عليكم. (يخرج من المسرح.)
عمارة :
إذا كانت تجارتك لا تقال فلا شك أنها خطيرة.
الزبون :
سوف تعرفها حين أريد ذلك.
عمارة :
ولكن عم أبو الحسن لا بد أن يعرفها.
الزبون :
إذا استطعت أن تتم هذه المسألة دون أن تعرف تجارتي.
عمارة :
ماذا؟
الزبون :
مائة دينار. (يدخل بائع الأشياء القديمة من الناحية التي يجلس بها إسماعيل.)
البائع :
تحف وهدايا تحف (يتقدم من إسماعيل)
ألا تشتري مني شيئا يا سيد؟
إسماعيل :
شكرا.
البائع :
اعتبرها صدقة، فوذات الله العلية لم أذق الزاد منذ أيام؛ لا أنا ولا أولادي.
إسماعيل :
ماذا عندك؟
البائع :
ما تريد، هذه أوان من الفضة.
إسماعيل (ساخرا) :
الفضة؟
البائع :
وهذه أخرى من النحاس.
إسماعيل :
وغيرها؟
البائع :
معي مصابيح جميلة.
إسماعيل :
أريد مصباحا رخيصا.
البائع :
خذ هذا.
إسماعيل :
بكم؟
البائع :
عشرة دراهم.
إسماعيل :
لا أستطيع فهو غالي الثمن.
البائع :
إنه جديد.
إسماعيل :
لا يهمني أن يكون جديدا.
البائع :
فخذ هذا.
إسماعيل :
بكم؟
البائع :
بأربعة دراهم.
إسماعيل :
هاته.
البائع :
بارك الله فيك. (يدفع له إسماعيل الثمن ويمضي البائع في طريقه.)
البائع :
تحف وهدايا تحف.
إسماعيل :
إنه من عهد نوح! لا بأس، لعلي إذا جلوته يصبح أنيقا، المهم أن يضيء لي حجرتي ... ولكن أي جلاء ينفع فيه! (يدلكه بيده)
لا، لا أظن أن أي جلاء سيفيد معه. (يتقدم شخص إلى منضدة إسماعيل ويجلس عليها في هدوء.)
الشخص :
نعم.
إسماعيل :
أنعم الله عليك. ماذا تريد؟
الشخص :
بل ماذا تريد أنت؟
إسماعيل :
يا عم أنا لا أعرفك.
الشخص :
أنا خادم هذا المصباح.
إسماعيل :
ماذا؟!
الشخص :
إذا مررت بأصبعك على هذا المصباح جئت إليك.
إسماعيل :
نعم، أتراني عبيطا؟! أم أنت تريد أن تهزل؟ قم، قم يا بني الله يفتح عليك.
الشخص :
أقوم، أمرك (يقف)
أين تريد أن أذهب؟
إسماعيل (في دهشة) :
هل أنت جاد؟!
الشخص :
يا سيدي أنا لا أستطيع أن أهزل.
إسماعيل :
أنت عفريت.
الشخص :
دعنا نقول إنني خادم هذا المصباح.
إسماعيل :
حذار أن تكون ساخرا.
الشخص :
عفوا مولاي، إنني خادمك.
إسماعيل :
سمعنا بمثل هذا ولم نره، ولكنهم كانوا يقولون إن عفريتا يشق الأرض أو السماء فيبدو عاليا مندلعا إلى الفضاء، ثم يقول شبيك لبيك عبدك وبين يديك.
الشخص :
كان هذا، ولكن رأينا أن هذا قد يخيف صاحب الشيء المرصود؛ فانتهينا إلى أن نتقدم له في هدوء كما فعلت أنا ونسأله عما يريد.
إسماعيل :
معنى هذا إذن أنك تفعل كل ما أريد؟
الشخص :
كل ما تريد.
إسماعيل :
لا بد أن أتأكد.
الشخص :
تأكد.
إسماعيل :
ضع في جيب عمارة هذا كيسا من الذهب.
الشخص :
لقد أصبح في جيبه كيس من الذهب.
إسماعيل :
اجعله يحس به.
عمارة (يضع يده على جيبه) :
ما هذا؟ (يخرج الكيس)
ما هذا؟ (ينظر إلى التاجر)
هل وضعت هذا في جيبي؟
التاجر :
وضعت ماذا؟
عمارة :
هذا.
التاجر :
كيس؟ ماذا به؟
عمارة (يفتح الكيس) :
ذهب. أنت فعلت هذا؟
التاجر :
أنا لا أحمل أكياسا من الذهب.
عمارة :
اسمع، أنا لا أحب أن أجن.
التاجر :
وأنا لا أحب أن أبعثر أموالي.
عمارة :
من أين جاءني هذا؟
التاجر :
لا أدري.
عمارة :
ليس معنا أحد إلا أنت.
التاجر :
لعله هذا الجالس هناك أراد أن يمزح معك.
عمارة :
من؟! هذا؟! إسماعيل! إنه في حياته جميعا لم يخرج من جيبه عملة ذهبية، ولا يعقل ... اسمع، هديتك مقبولة على كل حال ولكن هذا كثير، إنه أكثر من مائة دينار.
التاجر :
أنت إذن مصر على أنني أنا الذي وضعتها في جيبك.
عمارة :
اسمع، أنا لا أملك إلا عقلي وهو أملي في مستقبلي، فإن أضعته مني فلن تتم لك الصفقة التي تريد، ولن تجني من هذا إلا أن أصبح مجنونا يجري في الطرقات يتحسس جيبه لعل الذي أعطاه كيسا في المرة الأولى يعطيه بعد ذلك دائما؛ فقل لي وسريعا، هل أنت الذي أسقطت هذا الكيس في جيبي؟
التاجر :
اعتبره هدية مني.
عمارة :
عظيم! نعود إلى حديثنا إذن.
إسماعيل :
إذن فأنت تستطيع أن تفعل ما تشاء.
الخادم :
عفوا، إنني أستطيع أن أفعل ما تشاء أنت.
إسماعيل :
أي شيء؟
الخادم :
أي شيء.
إسماعيل :
هل تستطيع أن تجعل أهل بغداد جميعا سعداء؟
الخادم :
إلا هذا.
إسماعيل :
أرأيت؟
الخادم :
نحن لا نستطيع أن نقدم السعادة أو البؤس.
إسماعيل :
فماذا تستطيع أن تقدم؟
الخادم :
الغنى أو الفقر فقط.
إسماعيل :
هل تستطيع أن تكفي أهل بغداد جميعا؟
الخادم :
أستطيع.
إسماعيل :
تقدم لهم جميعا ما يحتاجون من عيش، ومأكل، وملبس؟
الخادم :
أستطيع.
إسماعيل :
منذ الآن؟
الخادم :
منذ هذه اللحظة.
إسماعيل :
فافعل إذن.
الخادم :
أفعل. أتريد شيئا آخر؟
إسماعيل :
لا.
الخادم :
ألا تريد شيئا لك أنت؟
إسماعيل :
إنني من أهل بغداد، ألست كذلك؟!
الخادم :
أعني ألا تريد أن أبني لك قصرا وأحضر لك الذهب والجواهر وما إلى ذلك؟
إسماعيل :
لا، لا أريد إلا أن يشبع أهل هذه المدينة جميعا ولا يجوعوا أبدا.
الخادم :
أفعل، ولكن لا شأن لي بسعادتهم.
إسماعيل :
أشبعهم أنت ولا شأن لك بسعادتهم.
الخادم :
أفعل. (يهم الخادم بالانصراف فيناديه إسماعيل.)
إسماعيل :
إنما قل لي.
الخادم :
نعم.
إسماعيل :
لماذا لم تفعل هذا من نفسك؟! أكان لا بد أن أدلك المصباح حتى تقوم بهذا العمل؟! أتترك الناس جياعا عرايا ولا تمد يدك لعونهم إلا حين أدلك المصباح؟!
الخادم :
نحن نفعل ما نؤمر به.
إسماعيل :
عجيب أمرك! على كل حال مع السلامة.
الخادم :
سلاما. (ينصرف.) (يجلس إسماعيل فترة صامتا ويستمر النقاش بين عمارة والزبون دون حديث، تبدو على إسماعيل أمارات الفرح والاطمئنان، يدخل أبو الحسن.)
أبو الحسن :
أنت هنا يا إسماعيل؟
إسماعيل (يقف) :
صباح الخير يا عم أبا الحسن.
أبو الحسن :
المقهى خالية، المقهى خالية دائما، وأريد أن أجهز لك عروسك.
إسماعيل :
إنها كثيرا ما تزدحم.
أبو الحسن :
إنها لا تزدحم أبدا، لا تزدحم أبدا يا إسماعيل.
إسماعيل :
لكل عمل متاعبه يا عم أبا الحسن.
أبو الحسن :
إلا المقاهي فمتاعبها فوق الوصف.
إسماعيل :
مع أن الناس يحبون المقاهي.
أبو الحسن :
أي ناس؟! إنهم الفارغون الذين لا يملكون شيئا يطلبون الطلب الهائف ويشغلون الكرسي والنضد عشر ساعات، والمقاهي يا بني أبخات تجد مقهى حقيرا لا يساوي درهما ومع ذلك كل الناس تزدحم فيه كل وقت، ومقهى نظيفا كمقهاي ولا يقصده الناس.
إسماعيل :
أتعرف يا عم إسماعيل ما الذي ينقصك؟
أبو الحسن :
ماذا؟
إسماعيل :
أن تجعل لمقهاك هذا طابعا معينا؛ شيئا بذاته يجعل الناس يقصدونه من أجله.
أبو الحسن :
قل لي يا بني ما هذا الشيء؟
إسماعيل :
لا أعرف، لو استطعت أن تستأجر مغنيا.
أبو الحسن :
يا بني ومن أين أدفع له؟
إسماعيل :
الزبائن هم الذين سيدفعون له.
أبو الحسن :
يا بني أنت أغنى الزبائن عندي، رواد المقهى كلهم فقراء، ولا يستطيعون أن يدفعوا شيئا.
إسماعيل :
لا تخف يا عم أبو الحسن، سيصبح الجميع أغنياء.
أبو الحسن :
ماذا تقول؟
إسماعيل :
سيصبح الجميع أغنياء، الجميع.
أبو الحسن :
يا بني حكايتك لا تشبهها حكاية.
إسماعيل :
كيف؟ (يعلو صوت عمارة .)
عمارة :
لقد فهمت كل شيء وإن كنت إلى الآن لم أعرف من أنت؟
التاجر :
أبعد كل هذا الحديث لم تعرف من أنا؟!
عمارة :
لا، ولكنني تأكدت أنك تاجر.
التاجر :
كيف؟
عمارة :
تستطيع أن تأخذني إلى دجلة عطشان وترجع بي إلى المقهى وأنا عطشان ما أزال.
التاجر (ضاحكا) :
يا بني، هل سألتني عن شيء ولم أجبك؟
عمارة :
الشيء الوحيد الذي أردت أن أعرفه لم تقله لي.
التاجر :
فيم أتاجر؟
عمارة :
فيم تتاجر؟
التاجر :
ألم أقل لك هات لي فنجان قهوة؟
عمارة :
أنا عارف أنني لن آخذ منك حقا ولا باطلا.
التاجر :
يا بني هات القهوة. (يقوم عمارة إلى المكان الذي يعد فيه القهوة ويرجع وهو يصرخ حاملا العيش واللحم.)
عمارة :
طيب الكيس وقلنا التاجر وضعه لنا في جيبنا، طيب وهذا العيش واللحم؟! وهذا العيش واللحم؟!
أبو الحسن :
ما لك يا ولد يا عمارة؟
عمارة :
إن الجان والعفاريت وسكان البحار السبعة وأبناء طباق الأرضين يدبرون في بغداد حدثا ضخما! حدثا ضخما! (يتجمع الناس حول عمارة بينما يضيء النور في بيت أبي الحسن وتظهر جمالات وترى العيش واللحم على النضد الذي كانت تأكل عليه ... تظهر عليها الفرحة.)
جمالات :
يعمر بيتك يا أبا الحسن! الله! اللحم مطبوخ! يعني طبخي لا يعجبك! من الذي طبخ لك اللحم؟! والله لأجعل نهارك أسود من هباب الحلل! طبخي لا يعجبك يا أبا الحسن؟! بعد هذا العمر كله؟! طيب! (تخرج.)
أبا الحسن، أنت يا أبا الحسن.
أبو الحسن :
ما لك يا جمالات؟ أهذا وقته؟
جمالات :
من الذي طبخ لك هذا اللحم؟
عمارة (صارخا) :
اللحم، اللحم، إنهم يدبرون شيئا في بغداد.
أبو الحسن :
انتظر يا عمارة، أين اللحم يا امرأة؟!
جمالات :
هذا اللحم الذي أحضرته، ألا يعجبك طبخي يا ضائع يا جائع حتى تأتي بلحم مطبوخ؟
أبو الحسن (في غيظ شديد) :
أي لحم يا جمالات؟ أي لحم؟!
جمالات :
هذا اللحم، ألا تراه؟ هذا اللحم.
أبو الحسن :
أنا، أنا، (يبكي)
أنا يا جمالات لم أحضر لحما، أنا لم أحضر لحما.
عمارة (صارخا) :
صلاة النبي أحسن من كل العفاريت! والمعلم لم يحضر لحما، (يرقص)
والمعلم لم يحضر لحما، والمعلم لم يحضر لحما، والمعلم لم يحضر لحما ... (ستار)
الفصل الثاني
(يلاحظ أن الجالسين هم الذين كانوا يمرون مسرعين في الفصل الأول - نفس المنظر الأول - إسماعيل ونور الدين - المكان مزدحم - خادم المقهى ليس عمارة.)
إسماعيل (فرحا) :
مرحبا يا صناجة العصر وشاعر الزمان.
نور الدين :
فرجت فرجا لا أول له ولا آخر.
إسماعيل :
من حيث لا تحتسب.
نور الدين :
وهل كان أحد يحتسب؟ من أين للناس هذا جميعه؟
إسماعيل :
الأولاد الآن.
نور الدين (مقاطعا) :
شبع ودفء وملابس من صنع السماء.
إسماعيل :
وزوجتك؟
نور الدين :
كنساء بغداد جميعا؛ كاسية آكلة سعيدة ... سعيدة ...
إسماعيل :
سعيدة؟
نور الدين :
أتريد الحق؟
إسماعيل :
إذا شئت أن تقول.
نور الدين :
الغريب أنها ليست سعيدة.
إسماعيل :
كيف؟
نور الدين :
تريد الأكل والملبس مني أنا، وتريد أن تطبخ، وتريد أن تشكو، وتريد أن تلعن سنسفيل آبائي، ولكنها لا تجد سببا لشيء من هذا أبدا فهي غير سعيدة.
إسماعيل :
هي إذن غير سعيدة؛ لأنها غير شقية؟!
نور الدين :
إنها غير سعيدة؛ لأنها لا تمارس إنسانيتها.
إسماعيل :
الطبيخ والشتيمة والشكوى هي الإنسانية!
نور الدين :
أجزاء من الحياة لا يمكن الاستغناء عنها.
إسماعيل :
ولكن أنت سعيد؟
نور الدين :
أما أنا فسعيد غاية السعادة.
إسماعيل :
أكل ومرعى وقلة صنعة.
نور الدين :
لا أحمل هم شيء؛ الأكل في البيت، والأولاد في أرغد عيش، والأشيا رضا والحمد لله.
إسماعيل :
لا شغل إلا الشعر والجمال وموسيقى الحياة الهانئة حولك.
نور الدين (في نغمة يبين فيها نبرة من الحزن) :
أنا في سعادة لا مثيل لها.
إسماعيل :
وطبعا أكملت الأبيات وصنعت بعدها قصائد وقصائد.
نور الدين :
أي أبيات وأية قصائد؟
إسماعيل :
البيتان، نظمت منهما بيتا وشطره. طبعا أكملت البيت الناقص.
نور الدين :
أنا لا أذكر شيئا عن هذين البيتين.
إسماعيل :
لقد رويتهما لي مرة واحدة، ولكني حفظتهما:
وقفت أجيل الطرف حولي فراعني
مدامع في عيني لا تتحدر
أهيب بها تهمي فتأبى ترفعا
ثم لم تكمل.
نور الدين :
نعم تذكرت.
إسماعيل :
هل أكملت البيت الناقص؟
نور الدين :
لا لم أكمله، لماذا أكمله؟
إسماعيل :
لأن البيت لا بد أن يكمل.
نور الدين :
لماذا؟
إسماعيل :
لأن البيت لا يصبح بيتا حتى يكمل.
نور الدين :
وما أهمية أن يصبح البيت بيتا؟ (في أثناء هذا الحوار يلاحظ أن خادما غير عمارة يدور على الناس، ويقدم لهم فناجين، ولكنهم يردون الطلبات، ويعطونه نقودا، فيردها هو أيضا.)
إسماعيل :
ليكون شعرا.
نور الدين :
وماذا يحصل إن لم يصبح شعرا؟
إسماعيل :
ألا تحس أنك تريد أن تقول شعرا؟ أنت ... أنت لا تريد أن تقول شعرا؟
نور الدين :
لا.
إسماعيل :
والشعر؟!
نور الدين :
ليذهب إلى جهنم وبئس المصير.
إسماعيل :
لقد شبعت فلتقل الشعر الآن وأنت مطمئن.
نور الدين :
ومن أدراك أنني كنت أريد أن أطمئن لأقول الشعر؟
إسماعيل :
من منا لا يبحث عن الاطمئنان؟
نور الدين :
أبحث عن الاطمئنان نعم، ولكن ألا بد لي أن أقول الشعر؟!
إسماعيل :
لقد خلقت لتقول الشعر. ما فائدتك في الحياة إن لم تقل الشعر؟!
نور الدين :
وما فائدة الشعر في الحياة؟
إسماعيل :
أنت الذي تقول هذا؟!
نور الدين :
ولماذا لا أقوله؟
إسماعيل :
لقد عشت كل هذه الأيام التي مضت؛ لأنك تقول الشعر.
نور الدين :
وهل هذا يعني أن للشعر فائدة؟!
إسماعيل :
لك على الأقل هو ذو فائدة كبيرة.
نور الدين :
لأن هناك مغفلين يحبون أن يسمعوا مثلي يمدح أمثالهم.
إسماعيل :
حتى أنت تقول هذا!
نور الدين :
إنها الحقيقة؛ الحياة واقع والشعر زيف ... زيف. الواقع لا يحب الزيف. الحياة لا تحب الشعر.
إسماعيل :
حياة بائسة حقيرة تلك التي تتحدث عنها، حياة مهينة، كالشجر الذابل، كالبلبل الصامت، كالنهر الجاف.
نور الدين (ضاحكا في سخرية) :
إنه أنت الذي يحاول أن يقول الشعر؟
إسماعيل :
يا ليتني! يا ليت! ولكن كيف أقول؟ إنه أنت الذي تعرف كيف تقول ولكنك صامت ... صامت. لماذا؟! لماذا؟! (ثائرا) ، لقد شبعت بعد جوع وأحنت، وكنت قلقا، فلماذا لا تقول؟! لماذا؟! لماذا يا نور الدين لماذا؟!
نور الدين :
أريد أن أعيش، أريد أن أحيا.
إسماعيل :
لا حياة لك بلا شعر.
نور الدين :
لا حياة لي مع الشعر، أريد أن أعيش هذه الحياة دون أن أتكلم، أعيشها كالناس، كهؤلاء الناس، لماذا أقول أنا ليطربوا هم؟! لماذا أطرب معهم؟! لماذا أكون أنا سلوتهم ولا أجد أنا من يسليني؟!
إسماعيل :
ولكنك إن سكت لا يجد الناس سلوى.
نور الدين :
ليذهبوا إلى الجحيم.
إسماعيل :
ألا تجد السلوى في قول الشعر؟
نور الدين :
أجد العناء والكد، أجد نفسي في تيه من الألفاظ والمعاني؛ فالدنيا أمامي لا شيء إلا الكلمة والقافية، والمشاعر المحترقة والأعصاب المشدودة ... إلى الجحيم فليذهب، إلى الجحيم ...
إسماعيل :
ولكن عندما تنتهي من البيت، عندما تجد اللفظة التي كنت تبحث عنها، حين تكتب المعنى الذي تريد قوله ... ألا تحس هذه الخفقة في قلبك، أنك خلقت شيئا؟ ألا تساوي هذه الخفقة الدنيا كلها؟!
نور الدين :
سئمت هذه الخفقة.
إسماعيل :
لا تستطيع، إنها ولدت معك ... جزء من كيانك ... بعض من دمائك، إنها أنت.
نور الدين :
إني أعيش الآن، ألست كذلك؟! إني أعيش.
إسماعيل :
الذي أراه أنك تموت.
نور الدين :
دعني، دعني، لا أريد أن أقول شيئا، ليس هناك ما أقوله، الناس شباع مكتسون لا مشاكل لهم، فلماذا أقول؟!
إسماعيل :
لأنك لا بد أن تقول.
نور الدين :
ماذا أقول؟
إسماعيل :
افرح مع الناس، كن غناءهم في اطمئنانهم، كن ضحكتهم في فرحهم ... كن هؤلاء الناس جميعا، كن أنت نشيدهم وأهازيجهم.
نور الدين :
الناس! أي ناس؟!
إسماعيل :
إخوانك، أبناء حياتك، جيرانك، وأصدقاؤك ... هؤلاء الناس.
نور الدين :
أهم سعداء؟
إسماعيل :
إنهم آمنون.
نور الدين :
من أين لهم الأمن؟
إسماعيل :
الرزق يأتيهم كل يوم.
نور الدين :
وهم أمنوا رزق الغد؟
إسماعيل :
لقد ضمنوا رزق اليوم.
نور الدين :
إن القلق جزء من حياتنا نخلقه إن لم نجده، إنهم كما عهدتهم في رعب ألا يأتيهم في الغد ما جاءهم اليوم من رزق.
إسماعيل :
ولكنهم سعداء، سعداء يا نور الدين، أليسوا سعداء؟
نور الدين :
إنهم يريدون أن يعملوا، العمل هو الشيء الوحيد الذي يجعلهم لا يفكرون في القلق.
إسماعيل :
ولكنهم سعداء يا نور الدين، أليسوا كذلك يا نور الدين؟! (في رجاء)
إنهم سعداء يا نور الدين، أليسوا كذلك؟ إنهم سعداء؟
نور الدين :
لا أدري، لعلني أخرف، نعم لعلهم سعداء، لعلني أخرف، ماذا يريدون أكثر من هذا ليكونوا سعداء؟! نعم لا بد أنهم سعداء.
إسماعيل (وقد هدأت نفسه) :
نعم إنهم سعداء.
نور الدين :
يجب أن يكونوا سعداء.
إسماعيل :
فلماذا لا تغني سعادتهم يا نور الدين؟! غن سعادتهم.
نور الدين :
ولكني يا إسماعيل ... ولكني ...
إسماعيل :
ولكنك ماذا؟
نور الدين :
لا أريد أن أغني.
إسماعيل :
لا تريد!
نور الدين (يقوم) :
لا أريد أن أغني يا إسماعيل (يتجه إلى الطريق لينصرف) .
إسماعيل :
ألا تغني يا نور الدين؟ ألا تغني؟
نور الدين :
أنت محق يا إسماعيل، كان يجب أن أغني ولكني لا أريد، لا أدري لماذا؟! ولكني لا أريد. (ينصرف.)
إسماعيل (يرفع صوته) :
ولكن يجب أن تغني يا نور الدين يجب أن تغني، هه، يجب أن تغني. (يعلو صوت شخصين يجلسان على منضدة أخرى.)
الأول :
أرأيت ما فعله الولد عمارة؟
الثاني :
ترك المقهى وقعد في البيت.
الأول :
عبيط.
الثاني :
ميمون أحسن منه.
الأول :
الولد عمارة كان خفيف الظل.
الثاني :
ولكنه كان طماعا.
الأول :
كل فتيان المقاهي طماعون.
الثاني :
ولكن ميمون لا يطمع.
الأول :
إنه أشد طمعا من عمارة.
الثاني (يتثاءب) :
يا شيخ، إنه يرفض أن يأخذ لنفسه نقودا.
الأول :
إنه فقط يستطيع أن يخفي طمعه.
الثاني :
أو لعله لا يحتاج إلى شيء.
الأول :
نعم فعلا، إنه لا يحتاج، إن أحدا من الناس لا يحتاج إلى شيء.
الثاني :
إننا في بغداد لا نحتاج إلى شيء.
الأول :
إنما قل لي.
الثاني :
أقول لك.
الأول :
كم مرة تبادلنا هذا الحديث؟
الثاني :
أي حديث؟
الأول :
هذا الحديث عن عمارة وعن ميمون وعن الناس في بغداد.
الثاني :
لا أذكر، كثيرا ما تبادلناه.
الأول :
لقد أصبحنا نقوله بالحرف الواحد لا نغير فيه شيئا.
الثاني :
قل لي.
الأول :
أقول لك.
الثاني :
هل قلت إن الناس في بغداد لا تحتاج إلى شيء؟
الأول :
نعم، ألا تعرف هذا؟
الثاني :
إذن فلعل الناس في غير بغداد يحتاجون.
الأول :
هل تريد أن تحتاج؟
الثاني :
لا، ولكني أريد الناس أن تحتاج إلي.
الأول :
إذا احتاج إليك الناس فلا بد أن تحتاج إليهم.
الثاني :
وما البأس أن أحتاج إلى الناس، ويحتاجوا إلي؟ ألا تكون حياة جميلة هذه؟ أحتاج إلى الناس ويحتاجون إلي. (يتقدم منهما ميمون.)
ميمون :
قهوة، على مزاجك يا عم عباس.
عباس :
أنا لا أريد قهوة.
ميمون :
إذا انتظرتك حتى تريد قضيت يومي كله بلا عمل.
عباس :
وما الذي يحدث إذا قضيت يومك بلا عمل؟! أحسن من من أنت؟
ميمون :
ولماذا لا تريد القهوة يا عم عباس؟
عباس (يصمت لحظة) :
والله يا بني لك حق، لماذا لا أريد القهوة؟ الظاهر أنني أصبحت أكسل حتى عن التفكير في طلب شيء، كسل، أنا لا أريد قهوة، أنا أكسل من أن أرفع الفنجان وأرشف القهوة ... و... و... إلى آخر هذه الإجراءات السخيفة.
ميمون :
اشربها على حسابي يا عم عباس، تحية مني.
عباس :
وهل ذكرت شيئا عن الحساب؟! هل ذكرت شيئا عن الحساب يا عثمان؟!
عثمان :
أبدا، هو يا بني كسلان. (ينادي أحد الجالسين إلى منضدة مجاورة على ميمون.)
الزبون :
ميمون، يا ميمون.
ميمون :
نعم يا عم سليمان، نعم.
الزبون :
تعال وأنا أريحك من مسألة القهوة.
ميمون :
لا يمكن أن تريحني يا عم سليمان.
سليمان :
لماذا؟
ميمون :
لأنني صنعت لك قهوة أنت الآخر. (ينتقل ميمون إلى منضدة سليمان.)
سليمان :
لا بأس عليك، تعال.
سليمان :
أعرض عليك اقتراحا.
ميمون :
أنا تحت أمرك.
سليمان :
تشرب أنت القهوتين.
ميمون :
إنها أربع قهاوي.
سليمان :
أربع قهاوي؟!
ميمون :
أربع قهاوي.
سليمان :
لا بأس اشربها أنت جميعا، وأنا أدفع لك ثمنها بشرط.
ميمون :
ما الشرط؟
سليمان :
أن تجعلني أنا أصنع قهوتي.
أصوات :
نعم، نعم، نريد نحن أن نصنع القهوة.
ميمون :
انتظروا، انتظروا، على مهلكم، خذوا أنفاسكم، إذا صنعتم أنتم القهوة، فماذا أصنع أنا؟!
أصوات :
تستريح.
سليمان :
تجلس على أحسن منضدة تعجبك ونخدمك نحن.
ميمون :
إن لذتي في الحياة أن تناديني وأجيبك.
سليمان :
وما الذي يجري لو ناديت أنت وأجبت أنا؟!
أصوات :
كلنا نجيبه، كلنا نجيبه.
ميمون :
الحال ينقلب، الطبيعي أن يجلس الزبائن ويخدم ميمون.
عباس :
تتكلم وكأنك في المقهى منذ أعوام! إنك لم تأت إلا في اليوم الأخير؛ أقصد في اليوم الأغر الذي أصبحنا فيه لا نحتاج إلى شيء.
سليمان :
لو كان عمارة هنا لقبل أن يجلس ونخدمه نحن.
إسماعيل :
ولكن هذا الوضع يكون شاذا يا إخوان.
سليمان :
وهل الوضع الذي نحن فيه طبيعي؟!
إسماعيل :
يا إخوان! (لا يلتفتون إليه.)
سليمان :
هيه، ماذا قلت يا ميمون؟ (قبل أن يجيب يدخل التاجر الغني - ينتقل ميمون إلى مكانه.)
ميمون :
انتظر حتى أرى ماذا يريد هذا الزبون الجديد. (يذهب إلى التاجر.)
ميمون :
أوامر.
التاجر :
أين عمارة؟
ميمون :
زبون قديم حضرتك؟
التاجر :
أعرف عمارة.
ميمون :
ترك عمارة المقهى.
التاجر :
لماذا؟
ميمون :
ولماذا يعمل؟
التاجر :
ولماذا تعمل أنت؟
ميمون :
لأن الناس لا بد أن تعمل.
التاجر :
وعمارة أليس من الناس؟!
ميمون :
هذا شأنه.
التاجر :
أحضر لي فنجان قهوة.
ميمون :
أمرك. (يحاول أن يذهب إلى حيث يصنع القهوة، ولكن سليمان يسارع إلى ندائه.)
سليمان :
اسمع يا ميمون، ميمون!
ميمون :
نعم.
سليمان :
ماذا طلب؟
ميمون :
وماذا يهمك؟
سليمان :
أريد أن أعرف فقط، ماذا طلب؟
ميمون :
طلب قهوة.
سليمان :
تأخذ كم وتجعلني أنا أصنع القهوة؟
ميمون :
يا عم سليمان، دعنا نشوف شغلنا.
سليمان :
يا أخي وأنت ماذا يهمك؟ القهوة ستعمل، وستكون أحسن من قهوتك، وستأخذ حسابها، ثم أنت بعد ذلك ستأخذ بضعة دراهم من ثمن القهوة وبقشيشها.
ميمون :
يا عم اتركنا لحالنا.
عباس :
أهذا كلام يا ميمون؟ ماذا يحصل لو جعلت الرجل يعمل فنجان قهوة من نفسه وأنا سأساعده؟
ميمون :
المعلم أبو الحسن يطردني.
عباس :
وماله؟ ماذا يهمك لو طردك؟!
ميمون :
ماذا يهمني؟! أصبح مثلكما أبحث عن أي إنسان يعطيني شغلة لوجه الله.
سليمان :
الله يكسفك، امش، لا نريد شيئا من وشك. (ينصرف إسماعيل ويدخل بائع قماش يبدأ بعرضه على المنضدة الأولى حيث يجلس عليها اثنان.)
البائع :
قماش من العال.
أحدهم :
تعال.
البائع :
يا أهلا يا مرحبا، أنا خدامك، أنا تحت أمرك.
المشتري :
ماذا عندك من الأقمشة؟
البائع :
حرير من الهند، وكتان من اليمن، وصوف من أفغانستان، عندي ما تريد وما لا تريد، عندي كل شيء.
الآخر :
هل عندك شيء من الجوخ؟
البائع :
إن ما عندي من الجوخ لا يلبس منه إلا الخليفة، صنف جاء في قافلة الأمس ناعم كالحرير، صقيل كأنه منسوج من خيوط الذهب.
الأول :
أرنا شيئا من بضاعتك. (البائع يفك الأقمشة ويبدأ في العرض ويقاطعه الثاني.)
الآخر :
هل عندك قطيفة؟
البائع :
ناعمة كأحلام العذارى تنساب كأنما الماء يصفق في الجداول، ألوان منها وألوان، أي لون تريد؟
الأول :
أرنا ما عندك. (يبدأ التاجر في عرض بضائعه بينما يدخل عمارة وتتعالى بعض أصوات من الجالسين.)
أصوات (متناثرة) :
عمارة، عمارة. (عمارة يسير إلى التاجر في حزم وإصرار ويجلس على الكرسي المقابل له.)
التاجر :
أهلا عمارة، أهلا، سألت عنك عندما ...
عمارة (مقاطعا) :
عرفتك.
التاجر :
ماذا؟
عمارة :
عرفتك.
التاجر :
وما لك تقولها وكأنك وجدتني لصا أو قاطع طريق؟
عمارة :
يا ليتك كنت كذلك.
التاجر :
إذن فأنت لم تعرفني.
عمارة :
بل عرفتك، عرفت كل شيء عنك.
التاجر :
أنا لا أخجل من عملي.
عمارة :
ولكن النفس تشمئز منه.
التاجر :
يا لك من غبي! إنني لا أعامل إلا الأثرياء والوزراء والملوك.
عمارة :
إن هذا لا يعطي عملك البريق الذي تحاول أن تكسبه إياه.
التاجر :
أنا تاجر الجمال، أنا بائع الأنس، أنا الذي أهب هذه النفوس التائهة في بيداء الحياة ماءها، ورضاب السحر، وإشراق الجمال، وخفقة الفؤاد، وهمسة الهوى، وخلجة الحنان.
عمارة :
إنك تتاجر في النفوس، في البشر، بئست هذه من تجارة.
التاجر :
ليس فيما أعمل ما يغضب الله.
عمارة :
لا تقل هذا، لا تقل هذا.
التاجر :
بل أقوله، ليس فيما أعمل ما يغضب الله.
عمارة :
تتمسك بالظاهر ولا تتطلع إلى العميق البعيد من أحكام الله! إنه لا يحب الرق، إنه يمقته ، ألم يجعل فك رقبة تقربا إلى الله؟
التاجر :
لو أراد لمنع.
عمارة :
أراد أن يمتحن أمثالك، يريد أن يرى هؤلاء الذين يتاجرون في إخوانهم.
التاجر :
تجارة حلال.
عمارة :
تبيع النفوس، نفوس البشر.
التاجر :
أنقل الفتاة من المهانة إلى العز، ومن الفقر إلى الغنى.
عمارة :
ليس مع العبودية عز ولا غنى.
التاجر :
هل شكون إليك؟
عمارة :
وهل الحرية تريد شكوى؟! إنها الحرية، بغيرها لا حياة ...
التاجر :
هل شكون إليك؟
عمارة :
هل يشكو القتيل وهو قتيل؟! إن من تسلب حريته يجد المصيبة أعظم من الشكوى.
التاجر :
فأنت إذن لن تسعى لي في الزواج من قمر الزمان؟
عمارة :
أنا لا أريد أن أعرفك.
التاجر :
أعطيك ما تطلبه.
عمارة :
خذ هذا الكيس أولا.
التاجر :
أي كيس؟!
عمارة :
ذلك الذي وضعته في جيبي.
التاجر :
أنا لم أضع شيئا في جيبك.
عمارة :
خذه.
التاجر :
إنه ليس لي.
عمارة :
فمن أين جاءني؟!
التاجر :
هل بعد هذه الأعاجيب التي نعيش فيها تسألني؟!
عمارة :
إنهم لا يعطون مالا.
التاجر :
وهل أدري ماذا يعطون وماذا لا يعطون؟
عمارة :
إنهم لا يعطون مالا، وأنا لن أبقي هذا الكيس في حوزتي.
التاجر :
ولكنه ليس ملكي.
عمارة :
الواقع أنني لست واثقا أنك صاحبه، ولكن مجرد الشك يجعلني أصر على أن أرده لك.
التاجر :
فأنت مصر؟
عمارة :
غاية الإصرار. (يترك له الكيس فيضعه التاجر في جيبه.)
التاجر :
وقمر الزمان؟
عمارة :
سأعمل كل جهدي إن شاء الله على أن تتزوج من أي إنسان إلا أنت.
التاجر :
أجاد فيما تقول؟
عمارة :
سوف ترى. (يقوم ويتجه إلى حيث تصنع القهوة.)
التاجر :
تعال يا عمارة.
عمارة (دون أن يلتفت إليه) :
أنا لا أعرفك.
ميمون :
أنت عمارة.
عمارة :
نعم، أنا عمارة، من أنت؟
ميمون :
أنا الذي حللت مكانك، الكل يسأل عنك.
عمارة :
وها قد جئت، فماذا تنوي أن تعمل؟
ميمون :
سأستمر في عملي.
عمارة :
لن أطردك من عملك ولكن عليك أن تساعدني.
ميمون :
تتكلم وكأنك صاحب العمل.
عمارة :
أنا صاحب العمل.
ميمون :
بل صاحبه من يملكه.
عمارة :
لقد نشأت هنا ولا أذكر ماذا كنت قبل أن أعمل في هذا المقهى، أتظن أن أبا الحسن سيطردني ويبقيك؟
ميمون :
فماذا ترى؟
عمارة :
تساعدني.
ميمون :
أمري إلى الله.
بائع الأقمشة :
فأنتما إذن لن تشتريا شيئا.
أحدهم :
قل، هل اشترى منك أحد شيئا منذ ... منذ ... منذ ... هذا الذي نحن فيه؟
البائع :
اشتر أنت مني ولا تدفع.
أحدهم :
لا أدفع!
البائع :
أقيده عليك، إلى ميسرة.
أحدهم :
وهل هناك ميسرة أكثر من هذا؟!
البائع :
فاشتر.
الآخر :
ولماذا نشتري؟
البائع :
لأني أريد أن أبيع.
الآخر :
ولكننا نحن لا نريد أن نشتري.
البائع :
ولماذا لا تريدون؟
الآخر :
لقد نلنا من الشراء كل ما نطمع فيه.
البائع :
أنت لم تشتر شيئا.
الآخر :
لقد قضينا وقتا طويلا معك في الحديث والفرجة، وهذا أقصى ما نطمح إليه.
البائع :
ولكني أريد أن أبيع.
الآخر :
ابحث عن غيرنا.
البائع :
أعطيك قطعة بلا ثمن.
الآخر :
بلا ثمن؟!
البائع :
بلا ثمن.
الآخر :
وماذا؟!
البائع :
تشتري مني قطعة أخرى مقابل ذلك.
الآخر :
وماذا نفعل بها؟ نحن لا نحتاج إلى قماش. (إسماعيل يقترب من البائع والزبائن.)
إسماعيل :
أجائع أنت يا أخي؟
البائع :
إن بيتي في بغداد.
إسماعيل :
ففي بيتك طعام؟
البائع :
نعم.
إسماعيل :
وكساء؟
البائع :
قلت لك إن بيتي في بغداد.
إسماعيل :
فما هذا إلا إصرار منك على البيع.
البائع :
وماذا أفعل إذا كنت لا أبيع؟!
إسماعيل :
تعيش سعيدا.
البائع :
وكيف أعيش وأنا لا أعمل؟! (تطفأ أنوار المقهى، ويضاء بيت أبي الحسن. جمالات وقمر الزمان.)
جمالات :
أقوم أجهز المائدة.
قمر :
أقوم معك.
جمالات :
لا، لا أريد منك عونا.
قمر :
كيف؟ كيف يا أم؟
جمالات :
منذ بدأ هذا الوارد الجديد وأنا أريد أن أعمل.
قمر :
كنت تفعلين بي الأفاعيل، لأساعدك.
جمالات :
كان هناك ما تساعدينني فيه.
قمر :
الأكل بلا لحم.
جمالات :
ولكن كنا نصنعه بأيدينا.
قمر :
كان لذيذا.
جمالات :
كان لذيذا! ما رأيك أن هذا الطعام الذي يجيئنا لا طعم له!
قمر :
لأننا لا نصنعه.
جمالات :
قطعا.
قمر :
من الذي يصنعه يا أم؟
جمالات :
سلام قولا من رب رحيم، يا بنتي ونحن مالنا ومالهم.
قمر :
ولكنا نأكله.
جمالات :
وهل نستطيع ألا نأكله؟!
قمر :
أقوم أنظف البيت.
جمالات :
لقد نظفته اليوم ثلاث مرات.
قمر :
أنظفه رابعة.
جمالات :
بل جهزي أنت المائدة وسأنظف أنا البيت.
قمر :
نظفي، نظفي ما شئت، فلن يترك الملل نفسك.
جمالات :
أشعر براحة وأنا أنظف البيت.
قمر :
هذا إذا كان قذرا، ولكنك لن تشعري بالراحة وأنت تنظفين الشيء النظيف، لن تشعري بهذه السعادة التي تعودت أن تشعري بها حين تمرين بالممسحة فإذا بالشيء المترب القذر قد أصبح نظيفا، ستمرين بالممسحة وستظل الأشياء كما هي، لن تضفي عليها هذه اللمسة السحرية التي تعودت أن تضفيها عليها حين تكون قذرة ثم تصبح نظيفة.
جمالات :
لا أفهم شيئا مما تقولين.
قمر :
لماذا ننظف؟
جمالات :
لتصبح الأشياء نظيفة.
قمر :
لا، ولكن لنشعر بأن عملنا يأتي بنتيجته.
جمالات :
لا أفهم.
قمر :
يا أم إن العمل الذي لا يأتي بنتيجته لا طعم له.
جمالات (في ضجر) :
جهزي المائدة وسأنظف البيت. (تدخل جمالات وتبدأ قمر في تجهيز المائدة، ولكنها لا تكاد حتى يدخل عمارة.)
قمر :
من؟ عمارة! هل عدت؟
عمارة :
كان لا بد أن أعود.
قمر :
المقهى بدونك شيء آخر.
عمارة :
كل شيء أصبح شيئا آخر يا ست قمر.
قمر :
ولكنك عدت.
عمارة :
ولكن الأمور لم تعد.
قمر :
ماذا جرى للناس يا عمارة؟
عمارة :
لا يستطيع أن يحل المشكلة التي نحن فيها إلا فلسفة إسماعيل.
قمر :
إسماعيل! لم أره منذ بدأت هذه الحكاية.
عمارة :
إنه يأتي إلى المقهى.
قمر :
ولكن لا أراه.
عمارة :
كيف؟
قمر :
أصبح لا يأتي إلا والمقهى مزدحمة.
عمارة :
أيقصد هذا؟
قمر :
وكيف أعرف؟
عمارة :
ألم يدخل إلى هنا أبدا؟
قمر :
منذ ذلك اليوم لم يدخل أبدا.
عمارة :
ماذا به؟
قمر :
أراه من وراء الباب، ذاهل هو دائما، يتسمع ما يقوله الناس، ويشارك من لا يعرفهم الحديث، ولا ينظر إلى بابي أبدا.
عمارة :
عجيب أمره.
قمر :
لقد فكرت أن أرسل إليه.
عمارة :
ولماذا لم تفعلي؟
قمر :
لم تكن أنت هنا.
عمارة :
لم أكن أحب إسماعيل.
قمر :
ثم ماذا حدث؟
عمارة :
التاجر الذي ...
قمر :
نعم التاجر الذي كنت تحبه.
عمارة :
فجعت فيه.
قمر :
هل مات؟
عمارة :
يا ليته.
قمر :
إذن ...
عمارة :
عرفت تجارته.
قمر :
ألم تكن تعرفها؟
عمارة :
تاجر رقيق.
قمر :
تاجر جوار؟
عمارة :
بياع نفس بشرية.
قمر :
فهو إذن تاجر رقيق.
عمارة :
ماذا بك؟ كأن الأمر يسيء إليك.
قمر :
ولماذا يسيء إلي؟
عمارة :
يشتري الناس ويبيعهم.
قمر :
هذه صناعته.
عمارة :
أترضين به زوجا؟
قمر :
أنا لا أرضى به زوجا ولو كان الخليفة.
عمارة :
إذن فما لك تهللت بالفرح؟
قمر :
أعجبني أن يخطبني.
عمارة :
وما الذي يعجبك في هذا؟
قمر :
يا غبي! ألا تفهم؟
عمارة :
أفهميني.
قمر :
إن الجمال هو بضاعته، صناعته، فإذا كان قد اختارني لنفسه، أفلا يعني هذا شيئا؟!
عمارة :
أنك جميلة.
قمر :
أرأيت؟!
عمارة :
أولم تكوني عارفة أنك جميلة؟!
قمر :
فرق بين أن أعرف وبين أن يقول تاجر الجمال إنه يريدني لنفسه.
عمارة :
ويلي من النساء.
قمر :
والآن ماذا تريدني أن أفعل؟
عمارة :
أن تتزوجي إسماعيل.
قمر :
وهل كنت أنتظر أمرك؟!
عمارة :
لا، ولكني أردت أن أقول هذا فقط.
قمر :
يا لك من غبي. (يطرق الباب فيذهب عمارة ويفتحه.)
عمارة :
من؟ سيدي إسماعيل؟
إسماعيل :
أنت هنا يا عمارة؟
عمارة :
تستطيع أن تعتبرني لست هنا.
إسماعيل :
بل إني أريدك.
عمارة :
تريدني أنا؟
إسماعيل :
طاب مساؤك يا قمر الزمان.
قمر :
الحمد لله أنك ما زلت تذكر اسمي.
إسماعيل (ذاهلا) :
الحمد لله.
عمارة :
تريدني قلت؟
إسماعيل :
نعم.
عمارة :
إنها هنا وحدها للحظات الله يعلم متى تنتهي، ألا تزال تريدني؟!
إسماعيل :
قل لي يا عمارة، هل أنت مسرور؟!
عمارة :
وماذا يهمك؟
إسماعيل :
أريد أن أعرف هل أنت راض عن هذه الحال هنا في بغداد؟
عمارة :
العجيب أنني لا أدري أننا نحيا في حلم.
إسماعيل :
أهو حلم سعيد؟
عمارة :
لست أدري يا سيدي إسماعيل، ولكن يبدو أن الناس تحب أن تظل الأحلام أحلاما والحقائق حقائق.
إسماعيل :
أصحيح هذا؟
قمر :
نعم صحيح.
إسماعيل :
هل أنت واثقة يا قمر الزمان؟
قمر :
الناس يحبون أن تظل الحياة حياة والأحلام أحلاما.
عمارة :
غبت عن المقهى فلم أسترح وعدت إليها فشعرت أنني أتنفس الهواء الذي يجب أن أتنفسه.
إسماعيل :
شكرا يا عمارة، اذهب أنت.
عمارة :
أهذا ما كنت تريدني فيه؟
إسماعيل :
شكرا يا عمارة. (يخرج عمارة وينهار إسماعيل على الكرسي.)
قمر :
ألهذا غبت عن المقهى؟
إسماعيل :
حسبت الناس ستجن من الفرح.
قمر :
وماذا وجدت؟
إسماعيل :
فرحوا يوما ويومين ثم ...
قمر :
أنت ماذا يهمك؟
إسماعيل :
يهمني الناس يا قمر الزمان.
قمر :
وماذا تستطيع أن تفعل؟
إسماعيل :
لقد فعلت وأستطيع أن أفعل.
قمر :
أنت ... أنت الذي فعلت.
إسماعيل :
نعم لقد فعلت.
قمر :
فعلت؟ ماذا فعلت؟
إسماعيل :
لم أبح بسري هذا لأحد، نعم لقد فعلت.
قمر :
كيف؟
إسماعيل :
لا يهمك كيف.
قمر :
كيف لا يهمني؟
إسماعيل :
المهم أنني فعلت.
قمر :
وماذا تنوي أن تفعل الآن؟
إسماعيل :
لا أدري.
قمر :
من أنت حتى تغير أقدار الناس؟!
إسماعيل :
حاولت أن أسعدهم.
قمر :
إنهم لا يحبون سعادة لا يصنعونها بأيديهم.
إسماعيل :
حاولت أن أعينهم.
قمر :
متى قالوا لك إنهم يريدون عونك؟
إسماعيل :
أطعمت الجائع وكسوت العريان.
قمر :
وهدمت الحياة؛ فكسل الكادح، ونام اليقظان، وكف عن السعي الناس، وانعدمت من الحياة معاني الحياة.
إسماعيل :
لقد كف نور الدين عن قول الشعر.
قمر :
الناس لا تقول الشعر في حياة راكدة.
إسماعيل :
وكف الناس عن العمل.
قمر :
ولماذا يعملون؟!
إسماعيل :
لقد هيأت لهم كل ما كان يسعون إليه.
قمر :
فهم لا يسعون.
إسماعيل :
أعيد الحياة كما كانت؟
قمر :
جريمة أكبر.
إسماعيل (مذعورا) :
ماذا؟ ماذا قلت؟
قمر :
لقد رأوا أحلامهم وهي حقيقة، إنهم يفجعون في هذا النوع من الحياة إن زال عنهم.
إسماعيل :
ولكنهم غير راضين عنه.
قمر :
ولكنهم تعودوه.
إسماعيل :
لماذا لا ترجع الأحلام أحلاما كما كانت؟
قمر :
لأنها أصبحت حقيقة.
إسماعيل :
ماذا فعلت؟
قمر :
مسكين أنت، لقد تلاعبت بحياة الناس فلا بد أن تحمل وزرك.
إسماعيل :
ماذا أفعل؟
قمر :
لو كنت فقيرا وأردت أن تتزوج مني وسألتني ماذا أفعل لقلت لك نسعى معا ولتمض بنا الحياة إلى غاياتها، أما الآن وأنت تجعل من نفسك منظما للحياة فعليك وحدك أن تجد الحل.
إسماعيل :
أقتل نفسي؟
قمر :
هروب، وهروب لا يفيد.
إسماعيل :
قمر الزمان، هل بوسعك أن تكتمي سري هذا؟
قمر :
أما هذا فلست بحاجة أن تقوله لي، فما كنت لأذيع سرا أودعتني أنت أمانته.
إسماعيل :
يا رب ماذا أفعل؟
قمر :
لا ملجأ إلا هو.
إسماعيل :
يا رب. (تطفأ أضواء البيت ويضاء النور على المقهى.)
التاجر :
يا عمارة.
عمارة :
يا ميمون اذهب إلى هذا الرجل، فانظر ماذا يريد؟ (ميمون يذهب إلى التاجر.)
ميمون :
أمرك يا سيدي.
التاجر :
أريد عمارة.
ميمون :
وأنا لا أنفع؟
التاجر :
يا ليتك يا بني كنت تنفع.
ميمون :
أمرك. (يذهب ميمون إلى عمارة.)
ميمون :
إنه يريدك أنت.
عمارة :
وأنا لا أريده.
ميمون :
وهل هذا شغل؟!
عمارة :
هكذا أشتغل أنا.
ميمون :
ولكن عملنا هنا أن تطيع أوامر الزبائن.
عمارة :
والله لم يبق إلا هذا! أتعلمني أنت الشغل هنا؟!
ميمون :
هذا لا يحتاج إلى تعليم.
عمارة :
طيب، أمرك. (يذهب عمارة إلى التاجر.)
عمارة :
وبعدك، يا سيدي أنا لا أريد أن أكلمك.
التاجر :
اقعد.
عمارة :
قل لي، لماذا تريدني أنا بالذات أن أتكلم في هذا الموضوع؟
التاجر :
ألم تفهم؟
عمارة :
الذي أفهمه أنك تاجر عظيم، وأنك تستطيع أن تتقدم إلى أبي قمر وتخطبها دون هذه المقدمات السخيفة مع صبي المقهى.
التاجر :
ألم تفهم؟!
عمارة :
لا وربك لم أفهم.
التاجر :
عجيبة!
عمارة :
بل العجيبة أنك تريدني أن أفهم أشياء لم تقلها.
التاجر :
لم أقلها؛ لأني واثق أنك ستفعلها.
عمارة :
ما هي؟
التاجر :
الإجراءات اللازمة.
عمارة :
وما هي؟
التاجر :
ألم تعملها؟
عمارة :
أنا على كل حال لن أعمل شيئا لصالحك أبدا.
التاجر :
حتى وإن كنت سأقدم إليك جارية هدية.
عمارة :
آه، هذا إذن هو العرض الجديد.
التاجر :
ما رأيك؟
عمارة :
يا عم الله يفتح عليك، أتريدني أنا أن أملك جارية؟!
التاجر :
وماله؟ الغذاء والكساء مكفولان والحمد لله، وأنت شاب في ريعان الشباب ...
عمارة (مقاطعا) :
اسمع أنا لن أصنع شيئا لصالحك أبدا.
التاجر :
طيب اترك هذه الحكاية الآن، أفهمت أولا لماذا كلمتك أنت ولم أكلم أباها؟
عمارة :
لا وحياتك لم أفهم.
التاجر :
قدرت أنك لن تكلم أباها حتى تسألها هي أولا.
عمارة :
آه.
التاجر :
هل سألتها؟
عمارة :
أتريدني إذن أن أكون عامل بريد الغرام؟!
التاجر :
مجرد سؤال.
عمارة :
إن أباها ...
التاجر :
دع أباها.
عمارة :
إنه هو الذي ...
التاجر :
يا بني أنا تاجر، أتظنني لا أعرف كيف يخطب الناس زوجاتهم؟!
عمارة :
فلماذا لا تتركني إذن؟
التاجر :
يا بني تاجر الجواري يعرف أسرار النساء، أنا لا أضمن أن أتزوج فتاة لا تريد هي الزواج مني.
عمارة :
هذا إذن ما كنت تريده مني؟
التاجر :
وما أزال أريده.
عمارة :
اسمع أيها الرجل إن لم تترك هذه المقهى في الحال سأفضح أمرك للزبائن أجمعين.
التاجر :
أتهديد هذا؟
عمارة :
لن تقوم إذن؟
التاجر :
إنني أستطيع أن أشتري هذه المقهى بزبائنها.
عمارة (بصوت مرتفع) :
تاجر أنفس بشرية. (يلتفت الزبائن ويستمر.)
عمارة :
تاجر جوار. (ينتبه الزبائن ويقدمون إليه في بشاشة وترحيب.)
أحدهم :
ماذا؟
آخر :
تاجر الأنس والصفاء.
عمارة :
ماذا؟ (يخرج إسماعيل فيجد الزبائن مجتمعين على التاجر.)
إسماعيل :
عمارة، ماذا يصنع هؤلاء؟
عمارة :
يشترون الجواري.
إسماعيل :
ماذا؟!
عمارة :
طبعا ما دام الغذاء والكساء قد توفر لهم فماذا يصنعون إن لم يشتروا الجواري؟
إسماعيل :
غفرانك يا رب، أهذا ما صنعت؟! أهذا ما صنعت؟! (ستار)
الفصل الثالث
(المقهى، إسماعيل على أحد المناضد ذاهلا، الوقت ليل والظلام يكاد يكون دامسا، وكراسي المقهى ومناضدها مكومة في أحد الجوانب.)
إسماعيل :
ماذا فعلت؟! ماذا فعلت؟! ماذا فعلت؟! (يفتح باب البيت لتخرج منه قمر الزمان.)
قمر :
من؟ من هنا؟
إسماعيل :
ماذا فعلت يا قمر؟! ماذا فعلت؟!
قمر :
إسماعيل، أما زلت هنا؟
إسماعيل :
ألم تتوقعي أن تجديني؟
قمر :
لا أدري، يخيل إلي أنني توقعت.
إسماعيل :
ماذا فعلت يا قمر؟!
قمر :
لعبت بالحياة.
إسماعيل :
فانتقمت مني الحياة.
قمر :
هكذا تفعل بكل من يلعب بها.
إسماعيل :
أنت لا تعرفين كم أتعذب.
قمر :
بل أعرف، فما خرجت الآن إلا لأنني توقعت أن أجدك تتعذب وحدك هنا.
إسماعيل :
وبعد يا قمر؟
قمر :
كم أتمنى أن أجد سبيلا لإجابتك.
إسماعيل :
لماذا لا أعيد الناس إلى ما كانوا عليه؟
قمر :
يتركون هذه الحياة الوادعة الهانئة، ليعودوا إلى الكد والتعب والقلق.
إسماعيل :
ولكنهم يضيقون بهذه الحياة الوادعة الهانئة.
قمر :
لأنهم يحيون فيها.
إسماعيل :
فهذا خير لهم وهم لا يعلمون.
قمر :
بل الخير لهم أن يختاروا هم حياتهم.
إسماعيل :
لقد حرت معك.
قمر :
لقد اخترت أنت لنفسك هذه الحيرة.
إسماعيل :
فلأتركهم إذن يعودون إلى الحياة التي اختاروها؟
قمر :
لقد أصبحت هذه الحياة التي صنعتها لهم جزءا من الاختيار، إنها حياة كانوا يحلمون بها، ولم يتوقعوا أن توجد لهم حقيقة، أما وقد وجدت فسيظلون إذا ذهبت عنهم يتوقون إلى العودة إليها.
إسماعيل :
ولكنهم كرهوها، مقتوها ...
قمر :
لأنهم أصبحوا لا يعملون.
إسماعيل :
ولا يقلقون أيضا.
قمر :
من قال لك إنهم لا يحبون القلق؟
إسماعيل :
أيحب الناس القلق؟!
قمر :
إذا نجوا منه وصلوا إلى الأمان.
إسماعيل :
فحياتهم اليوم أمان.
قمر :
ولكنه أمان بلا قلق.
إسماعيل :
هل هناك أمان مع القلق؟!
قمر :
لا بد من القلق؛ حتى نشعر بالأمان، لا لذة للأمان إذا لم يسبقه قلق، إذا لم يوجد القلق بحث عنه الناس. القلق هو الذي يحركهم، هو عنصر الحياة في حياتهم.
إسماعيل :
ماذا فعلت؟! ماذا فعلت؟!
قمر :
لا بد أن تفعل شيئا غير هذا السؤال الذي تكرره دائما.
إسماعيل :
إنك تقفلين أمامي الطرق.
قمر :
أي الطرق؟
إسماعيل :
أنا الآن لا أملك إلا واحدة من اثنتين: إما أن يظل الناس كما هم، وهذا ما لا أحتمل، وإما أن يعودوا إلى ما كانوا.
قمر :
وهذا ما لا يحتمل الناس.
إسماعيل :
لكم أتمنى يكون هذا الذي أنا فيه حلما ثقيلا ضاريا ثم أصحو، فإذا كل ما كان فيه أضغاث وخرافة.
قمر :
إسماعيل.
إسماعيل :
ماذا؟
قمر :
ألا تستطيع؟ لا، لا أظن.
إسماعيل :
ماذا؟ قولي.
قمر :
ما أحسب هذا ممكنا.
إسماعيل :
قولي لعلني أستطيع أن أجعله ممكنا.
قمر :
لا، لا يمكن.
إسماعيل :
وهل هذا الذي نحن فيه كان ممكنا؟!
قمر :
نعم، ولكن.
إسماعيل :
قولي.
قمر :
لقد أوشك الفجر أن يظهر.
إسماعيل :
وما صلة هذا بما نحن فيه؟
قمر :
اسمع، هل تستطيع أن تجعل الناس ينسون هذه الأيام التي عاشوها في ظل حياتك الجديدة؟
إسماعيل :
ماذا؟
قمر :
إذا فعلت خرجت من هذه الكارثة.
إسماعيل :
لا أدري.
قمر :
إذن فحاول.
إسماعيل :
اسمعي سترينني أتكلم وحدي، أتخافين؟
قمر :
لا.
إسماعيل :
ليكن إذن. (يخرج إسماعيل المصباح من جيبه، ويمر بيده عليه، فيأتي خادم المصباح ويجلس في هدوء إلى جانب إسماعيل.)
إسماعيل :
قل لي.
الخادم :
تحت أمرك.
إسماعيل :
طبعا تستطيع أن توقف الغذاء والكساء من التوزيع.
الخادم :
طبعا.
إسماعيل :
طبعا؛ فقطع الخير أسهل من مواصلته.
قمر :
هل كان خيرا؟
إسماعيل :
لا أدري.
قمر :
أما زلت لا تدري؟!
إسماعيل :
النهاية (يلتفت إلى الخادم)
أيمكن أن تجعل الناس ينسون هذه الأيام التي كانوا يتلقون فيها الغذاء والكساء؟
الخادم :
ماذا؟
إسماعيل :
هل تستطيع؟
الخادم :
كل الناس؟
قمر :
لا، لا يا إسماعيل، ليس كل الناس.
إسماعيل :
كيف؟
قمر :
يجب أن نظل أنا وأنت متذكرين.
إسماعيل :
ماذا؟
قمر :
لو نسيت هذه الأيام ستحاول التجربة مرة أخرى.
إسماعيل :
لا لا، أبدا.
قمر :
تقول هذا لأنك عرفتها، ولكنك إن نسيت فمن يدري؟
إسماعيل :
هيه! ماذا قلت؟
الخادم :
أستطيع أن أجعل الناس جميعها تنسى.
إسماعيل :
أتستطيع أن تتركني أنا وقمر؟
الخادم :
أستطيع أن أترك هذا البيت.
إسماعيل :
البيت جميعه؟
قمر :
البيت جميعه لا.
إسماعيل :
ماذا قلت؟!
قمر :
لو ظلت أمي ذاكرة جنت.
إسماعيل :
كيف؟
قمر :
قد يستطيع أبي أن ينسى ولو أنه أسعد شخص بما حدث، أما ...
إسماعيل :
تقولين إن أباك أسعد شخص بما حدث؟
قمر :
طبعا.
إسماعيل :
كيف؟
قمر :
الناس لا يتركون المقهى صباح مساء، فكيف لا يكون سعيدا؟!
إسماعيل :
ولكن ألا يهمه تعاسة الناس؟
قمر :
بل تهمه المكاسب التي يجنيها؛ لقد ربح في هذه الأيام ما لم يجمعه في شهور.
إسماعيل :
عجيبة هذه الحياة ! كل طريق فيها ينتفع به ناس ويضر به آخرون.
قمر :
أهذا وقت تفلسف؟! قد أستطيع أن أقنع أبي، وقد يرى من الحكمة أن ينسى؛ فهو تاجر ويخشى أن يظن الناس به الجنون، أما أمي فلا حيلة لي معها لا بد أن تنسى مع الناس، وإلا صدقت على كلام أبي وجن كلاهما معا.
إسماعيل :
وكيف تجعلين أباك في مكان وأمك في مكان؟
قمر :
لا أدري.
إسماعيل :
لا بد من حل سريع، الفجر يقترب ويجب أن ننتهي من هذا الأمر فورا.
قمر :
اسأل صاحبك، متى يجعل الناس ينسون؟
الخادم :
أستطيع ذلك في أي وقت أريد.
إسماعيل :
في أي وقت؟
قمر :
سأحاول محاولة، ستخرج أمي الآن لا تجعلها تراك.
الخادم :
لن تراك. (تدخل قمر إلى بيتها وتعبر المسرح وتدلف من الباب وما تلبث أن تعود ومعها أمها وعلى أمها آثار النوم.)
جمالات :
ما الذي أيقظك الآن؟
قمر :
هذا لا يهم الآن، المهم أن تذهبي إلى الكوخ.
جمالات :
ماذا أفعل؟
قمر :
سيوزعون الخبز هناك اليوم.
جمالات :
لماذا؟
قمر :
أتريدين أن ترفضي دعوة من بسم الله الرحمن الرحيم؟
جمالات :
لا لا، وهل أستطيع؟!
قمر :
إذن ...
جمالات :
أقول لأبيك ونذهب معا.
قمر :
ولكن أبي لن يذهب معك.
جمالات :
لماذا؟
قمر :
متى رأيته يصدق الكلام عن بسم الله الرحمن الرحيم؟
جمالات :
آه، صدقت، رأسه كالحجر، طول عمره لا يسمع كلامي في أي شيء. تصوري قلت له يوما ...
قمر :
ماذا جرى يا أم، هل ستتركين بسم الله الرحمن الرحيم ينتظرون وتروين لي عن أبي؟
جمالات :
آه، نسيت، إذن أذهب، أضع هدومي علي وأخرج.
قمر :
أي هدوم؟ هل سينتظرون؟!
جمالات :
أخرج هكذا؟
قمر :
من سيراك؟
جمالات :
على رأيك، أذهب هكذا.
جمالات :
أخرج هكذا؟
جمالات :
تأتين معي طبعا.
قمر :
ماذا؟! وأنا ماذا أفعل معك؟!
جمالات :
أذهب وحدي؟!
قمر :
أليس هذا خيرا من أن يستيقظ أبي، فلا يجد أحدا منا هنا؟
جمالات (في شيء من الخوف) :
أذهب وحدي.
قمر :
لن تكوني وحدك؛ ستكون نساء كثيرات.
جمالات :
أواثقة أنت؟
قمر :
كل الثقة .
جمالات :
أذهب، لاحظي أباك، قولي له إن صحا إنني عائدة توا.
قمر :
سأفعل، اذهبي.
جمالات :
ذاهبة، ذاهبة، الله لا إله إلا هو الحي القيوم. (تخرج جمالات إلى المقهى، ولا ترى إسماعيل، تمضي إلى خارج المسرح وتخرج قمر.)
قمر :
إسماعيل، إسماعيل، أين أنت؟
الخادم :
هل أجعلها تراك؟
إسماعيل :
هل أنت مخفيني؟!
الخادم :
نعم.
إسماعيل :
لا يهم، هل نبدأ الآن؟
قمر :
إسماعيل. (تراه حيث تركته.)
هذا أنت، أين كنت؟
إسماعيل :
لا يهم، هل نبدأ الآن؟
قمر :
إذا شئت، أستطيع دائما أن أجعل أمي تفعل ما أريد، أما أبي ...
إسماعيل :
هل هو بالداخل؟
قمر :
إن أبي لن ينسى.
إسماعيل :
سيجعله الناس ينسى.
قمر :
كم كنت أتمنى ألا أعرضه لهذه التجربة.
إسماعيل :
لقد أردت لنا أن نذكر.
قمر :
ولا بد لنا أن نذكر.
إسماعيل :
ألا تستطيعين إبعاد أبيك؟
قمر :
لو كنت أستطيع ما تأخرت.
إسماعيل :
فلا حيلة لنا إذن.
قمر :
لا حيلة لنا.
إسماعيل :
إذن نبدأ.
الخادم :
أنا تحت أمرك.
إسماعيل :
هل ستبذل مجهودا كبيرا في هذا العمل؟
الخادم :
لا شيء في أرضكم يكلفنا نحن مجهودا كبيرا.
إسماعيل :
إذن افعل ولا داعي لهذا الغرور؛ فلا شك أن لكم متاعبكم.
الخادم :
ليس العمل من متاعبنا على أية حال.
إسماعيل :
فما متاعبكم؟
الخادم :
شرها جميعا العبودية.
إسماعيل :
أي أنواع العبودية؟
الخادم :
أن أكون عبدا لشيء.
إسماعيل :
هل أنت عبد لشيء؟
الخادم :
أنا عبد لهذا المصباح.
إسماعيل :
فما الذي يطلقك من هذه العبودية؟
الخادم :
تستطيع أنت تطلقني.
إسماعيل :
أنا؟ كيف؟
الخادم :
تعطيني حريتي.
إسماعيل :
أنا؟!
الخادم :
نعم، أنت.
إسماعيل :
أملك أنا حرية أحد؟!
الخادم :
حريتي.
إسماعيل :
فهي لك.
الخادم :
الآن؟
إسماعيل :
طبعا، بعد أن تنتهي من هذه المأمورية الأخيرة.
الخادم (يشير بحركة بيده ثم يلتفت إليه) :
لقد انتهت.
إسماعيل :
فأنت حر.
الخادم :
شكرا.
إسماعيل :
انتظر، وهذا ماذا أفعل به؟
الخادم :
المصباح، لقد رجع مصباحا عاديا يضيء!
إسماعيل :
لقد أصبح ذا فائدة حقيقية.
الخادم :
وداعا.
إسماعيل :
وداعا. (يخرج الخادم ويغمر النور المسرح.)
إسماعيل :
طلع الصبح يا قمر.
قمر :
يا ترى ماذا سيصنع الناس؟
إسماعيل :
سيعودون إلى ما كانوا عليه.
قمر :
ترى هل استطاع الخادم أن ينسيهم حقا؟
إسماعيل :
الذي استطاع أن يفعل كل هذا الذي فعل لا يعجزه شيء.
قمر :
كان عليك أن تجعله ينتظر حتى تتأكد.
إسماعيل :
هؤلاء لا يكذبون.
قمر :
نعم صدقت، هؤلاء لا يكذبون.
إسماعيل :
أخاف أن يشقى الناس يا قمر الزمان.
قمر :
ألم تتبين بعد أن الناس يسعدون بشقائهم؟
إسماعيل :
إن أحدا لا يسعد بشقائه.
قمر :
إن التغلب على الشقاء سعادة.
إسماعيل :
ومن لا يتغلب؟
قمر :
ليست طريقتك هي المثلى على كل حال.
إسماعيل :
فما هي الطريقة؟
قمر :
لست أدري ولكن لا بد أن يكون العمل فيها هو الأساس.
إسماعيل :
إذن فماذا أفعل؟
قمر :
اعمل.
إسماعيل :
ماذا؟
قمر :
قم بعملك وأتقنه ودع الخليفة يفكر في شئون الناس.
إسماعيل :
إن الخليفة لا يفكر إلا في خزانته وفي توسيع ملكه.
قمر :
فدع الزمن يرعى شئون الناس.
إسماعيل :
إن الزمن هو الذي يقسو على الناس.
قمر :
فدع الناس يغيرون الزمن ويغيرون الخليفة.
إسماعيل :
الناس؟!
قمر :
إنها مشكلتهم، فهم وحدهم المسئولون عن إصلاحها.
إسماعيل :
ولكنهم مساكين.
قمر :
مساكين لأنهم لا يواجهون مشاكلهم، إنهم هم أكبر قوة في بغداد لو أرادوا لسيروا الزمن والخليفة، ولكنهم سكتوا للزمن وخضعوا للخليفة.
إسماعيل :
إنهم إزاء قوة لا قبل لأحد بها.
قمر :
إنهم أقوى.
إسماعيل :
لقد عجزت القوى الخفية التي سخرتها لهم أن ترضيهم.
قمر :
لأنهم يريدون أن يعملوا.
إسماعيل :
فما لهم لا يعملون على تحسين حالهم؟
قمر :
لأن كل فرد فيهم يفكر في نفسه ولا يفكر في المجموع.
إسماعيل :
أنا فكرت في المجموع.
قمر :
ولكنك لم تشرك المجموع في العمل الذي قمت به، لقد فرضت عليهم غذاءك وكساءك.
إسماعيل :
نعم عليهم أن يختاروا، عليهم هم أن يصنعوا حياتهم.
قمر :
لهذا خلقت لهم الحياة ليصنعوها هم، بتفكيرهم، بعملهم.
إسماعيل :
حاولت ... (تدخل جمالات المسرح هالعة خائفة وتتقدم إلى قمر.)
جمالات :
قمر ابنتي، هل أنا حقا في بيتي؟!
قمر :
في بيتك يا أم، نعم في بيتك.
جمالات :
لماذا خرجت يا قمر؟! أين ذهبت؟!
قمر (تنظر إلى إسماعيل) :
خرجت ... خرجت ... لا أعرف يا أم، ألا تعرفين أنت لماذا خرجت؟
جمالات :
خرجت ... لقد وجدت نفسي خارجة!
قمر (في ضحك) :
ماذا؟ ماذا تقولين يا أم؟
جمالات :
وجدت نفسي في الطريق هكذا بلا مناسبة، بهدومي هذه، وقفت في الطريق أسأل نفسي لماذا خرجت وإلى أين أنا ذاهبة فلم أستطع أن أجد الجواب.
إسماعيل :
لا بأس عليك يا أم قمر.
جمالات :
أنت هنا يا إسماعيل؟ ألا تعرف يا بني لماذا خرجت؟
قمر :
لعلك يا أم قد خرجت لتحضري العيش.
جمالات :
العيش، العيش يأتينا كل يوم دون أن أخرج له.
قمر :
يأتينا! (تنظر إلى إسماعيل) .
جمالات :
طبعا، ماذا بك، هل جننت؟!
قمر :
يأتينا يا أم؟
جمالات :
نعم يأتي به الخباز ويأخذ أجره كل أسبوع.
قمر :
آه! حسبت أنه يأتينا بلا ثمن.
جمالات :
بلا ثمن؟ أهناك شيء بلا ثمن؟ هل جننت؟
إسماعيل :
إذن فلماذا خرجت يا أم قمر؟
جمالات :
هذا ما يحيرني يا إسماعيل يا بني.
قمر :
على كل حال يا أم، سليمة والحمد لله.
جمالات :
تقولين سليمة! أأجن وتقولين سليمة؟
قمر :
لعلك يا أم أردت أن تتمشي قليلا قبل أن يزحم الناس الشوارع.
جمالات :
لعلني، ولكن لماذا نسيت سبب خروجي؟!
قمر :
على كل حال يا أم لا داعي للقلق، فها قد عدت وأنت بخير والحمد لله.
جمالات :
أأخرج وحدي ولا ...
قمر (تقاطعها) :
أم، لا تعيدي هذا الحديث.
جمالات :
أأجن وحدي؟ لا بد أن أقول.
قمر :
خير لك ألا تعيدي هذا الحديث، فما أظن أبي يسره أن يعرف أنك خرجت بهذه الملابس في عرض الطريق ودون سبب مفهوم.
جمالات (وكأنها أدركت الموقف) :
ماذا؟ ماذا قلت؟
قمر :
أي عذر ستقدمينه لأبي؟
جمالات (في لجلجلة وسرور وخفر) :
نعم، نعم، لك حق، إنه يغار علي، يغار بجنون. أتصدق يا إسماعيل أنه يغار علي غيرة عمياء؛ لو نظرت من الباب أو من الشباك ثار وزمجر وأوشك أن يقتلني قتلا. منذ بضعة شهور جاء إلي ...
قمر :
يا أم أهذا وقته؟! ادخلي الآن إلى البيت قبل أن يصحو أبي وقبل أن يأتي الزبائن إلى القهوة.
جمالات :
صدقت، أحكيها لك في يوم آخر يا إسماعيل.
إسماعيل :
كم أنا مشتاق إلى سماعها. (تدخل جمالات.)
إسماعيل :
أرأيت؟ لقد صدق الخادم وعده.
قمر :
ولكن المصاعب ما زالت أمامنا.
إسماعيل :
المصاعب؟ أية مصاعب؟
قمر :
أبي. (صوت أبي الحسن ينادي من الداخل.)
أبو الحسن :
جمالات، جمالات. (تدخل قمر إلى بيتها ويجلس إسماعيل إلى منضدة في المقهى ويسمع للحديث.)
جمالات :
نعم يا أبا الحسن، ها أنا ذي قادمة. (يظهر أبو الحسن في قاعة بيته.)
أبو الحسن :
أين أنت؟ وما الذي أيقظك من فجر الله؟
جمالات :
هكذا أصحو كل يوم.
أبو الحسن :
كان هذا في الزمن الماضي، أما منذ أصبح الغذاء والكساء يجيئنا وحده دون سعي فنحن ...
جمالات :
ماذا؟! ماذا؟!
أبو الحسن :
ألم تسمعي ما قلت؟
جمالات :
سمعت ولكني لم أفهم.
أبو الحسن :
ألا يأتينا غذاؤنا وكساؤنا دون سعي؟
جمالات :
أشربت شيئا في أمسك؟!
أبو الحسن :
ولا في يومي.
جمالات :
فما الذي تقول؟!
أبو الحسن :
أقول ما يحدث. (يأتي عمارة إلى المقهى ويبدأ في ترتيب الكراسي.)
عمارة :
صباح الخير يا سيد إسماعيل، يا أهلا.
إسماعيل :
أهلا عمارة. (يعود عمارة إلى تنظيم الكراسي ويعود إسماعيل إلى التسمع.)
قمر :
هل أنت واثق يا أبي مما تقول؟
أبو الحسن :
ماذا؟ وأنت أيضا ...
قمر :
ولكنه يا أبي شيء لا يعقل.
جمالات (تبكي) :
يا بختي المائل! يا فضيحتي أمام الناس! جن الرجل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قمر :
انتظري يا أم، لعله يا أبي كان حلما.
أبو الحسن :
يكون حلما لو كان مرة واحدة أو يوما واحدا، ولكنه استمر لأيام وأيام.
جمالات (باكية) :
يا مصيبتي! مصيبة لم يعرفها عدو ولا حبيب.
قمر :
يا أبي فكر فيما تقول.
أبو الحسن :
أفكر! كان الغذاء يأتينا كل يوم في مواعيده، وكان الكساء يأتينا أيضا وكان يأتي الناس جميعا، وكانت المقهى مزدحمة بالرواد لا يخلو فيها كرسي طول اليوم حتى الليل المتأخر، وغاب عمارة فاستأجرت صبيا آخر اسمه ميمون.
جمالات :
يا خيبتي! يا سواد أيامي!
قمر :
لعلك يا أبي كنت تحلم.
جمالات :
لعلك كنت تحلم يا أبا الحسن، لعلك يا حبيبي كنت تحلم.
أبو الحسن :
أحلم! عظيم! كنت أحلم! فإذا كانت ثروتي في هذه الأيام قد بلغت مائتي دينار أيكون هذا حلما؟!
جمالات :
لا، إن كانت زادت حقا لا يكون حلما، هل زادت يا أبا الحسن؟!
أبو الحسن :
انتظري حتى أحضرها. (تخرج قمر إلى إسماعيل.)
قمر :
هل سمعت؟
إسماعيل :
ماذا سنفعل؟
قمر :
اسمع، عليك أن توافق على كل ما أقوله.
إسماعيل :
هل ستقولين شيئا؟
قمر :
سترى.
إسماعيل :
ماذا ستقولين؟
قمر :
سترى، عليك أن توافق، فقط عليك أن توافق. (تدخل.)
جمالات :
أرأيت؟
قمر :
انتظري يا أم لا تتعجلي. (يدخل أبو الحسن.)
أبو الحسن :
إن كان ما رأيته حلما، فهل هذه الدنانير حلم أيضا؟!
جمالات (تنتفض) :
أرني.
أبو الحسن :
انظري، امسكي، المسي، شمي، ضعي هذه الدنانير بين أسنانك وامضغيها حتى تنكسر أسنانك.
جمالات :
قمر الزمان، أكان حلما أم حقيقة؟!
قمر :
طبعا يا أبي هذه الدنانير غير المائتي دينار التي أعطيتها لك.
أبو الحسن :
ماذا؟! هل أعطيتني أنت مائتي دينار؟!
قمر :
ماذا؟! هل نسيت يا أبي؟! المهر الذي أعطاه لي إسماعيل لأسلمه لك.
جمالات :
أخذت مهر البنت ولم تقل لي.
أبو الحسن :
أنا يا قمر أخذت مهرك؟
قمر :
وهل هذا المبلغ ينسى يا أبي؟! لقد جاء إسماعيل ولم يجدك ولا وجد أمي وخاف أن يضيع منه المهر فتركه معي.
أبو الحسن :
هل جننت؟
قمر :
الفتاة لا تنسى أن مهرها دفع.
جمالات :
وأنت تخلط بين الحلم والحقيقة.
أبو الحسن :
ألا تصدقينني؟!
جمالات :
أصدق الرجل الذي يقول إن الغذاء والكساء كان يوزع على الناس جميعهم بلا ثمن؟ أهذا كلام يصدق؟! لقد اختلط عقلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أبو الحسن :
وهذا المال؟!
جمالات :
مهر البنت، أخذته وتريد أن تأكله.
أبو الحسن :
هل جننت؟!
جمالات :
أأنا التي جننت أم أنت الذي تريد أن تأكل مهر بنتك وتحاول أن تخدعنا بهذا الخرف الذي تقول؟
أبو الحسن :
أنا يا بنتي أخذت مهرك؟
قمر :
انتظر يا أبي. (تخرج وتنادي إسماعيل.)
قمر :
إسماعيل، تعال. (يدخل إسماعيل إلى البيت.)
إسماعيل :
صباح الخير يا عم أبا الحسن.
أبو الحسن :
أنت يا بني ...
قمر (مقاطعة) :
إسماعيل، ألم تأت هنا يوم الإثنين الماضي؟
إسماعيل :
أنا أجيء كل يوم.
قمر :
ولكنك يوم الإثنين أعطيتني المائتي دينار، وقلت إنها مهري وطلبت مني أن أعطيها لأبي.
إسماعيل :
أنا ... أنا ... نعم نعم.
أبو الحسن :
ومن أين أتيت بهذه الدنانير؟
إسماعيل :
أتيت بها ... أتيت بها ...
قمر :
ما لك لا تقول؟! وما العيب في هذا؟ ما العيب في أن تأخذ مائتي دينار من الخليفة؟
أبو الحسن :
الخليفة؟!
قمر :
سمع أنه يريد أن يتزوج ولا يملك مالا فأعطاه هذه الدنانير.
أبو الحسن :
من الخليفة يا إسماعيل؟!
إسماعيل (وقد استرد نفسه) :
اسمع يا عم أبا الحسن.
أبو الحسن :
نعم يا سيدي، قل.
إسماعيل :
عندي اقتراح.
أبو الحسن :
ماذا؟ أدفع لك فوقها مائتي دينار؟!
إسماعيل :
لا، أنا أريد قمر الزمان بلا جهاز. خذ المائتي دينار وزوجني قمر الزمان.
جمالات :
ماذا تقصد؟
إسماعيل :
ألم تفهمي يا خالتي أم قمر؟
جمالات :
فهمت الشوم واللوم، تريد ابنتي أن تتزوج بلا جهاز؟
قمر :
وأنت ماذا يغضبك يا أم، ما دام إسماعيل يريد ذلك؟
جمالات :
والناس! ماذا تقول الناس؟
إسماعيل :
وما للناس ولنا يا خالتي أم قمر؟
أبو الحسن :
إذن فأنت دفعت مهر البنت؟
إسماعيل :
وطبعا حين نعقد العقد سأدفع لك المهر الرسمي.
أبو الحسن :
فهذه الدنانير هي مهر البنت؟
إسماعيل :
وأريدها بلا جهاز.
أبو الحسن :
إذن ...
إسماعيل :
بارك الزواج يا عم أبا الحسن، توكل على الله.
جمالات :
وبلا جهاز؟!
أبو الحسن :
إذن فقد كان حلما. عمارة، عمارة، عمارة تغيب عن المقهى وأحضرت بدلا منه ميمون.
قمر :
عمارة في الخارج يصف الكراسي.
أبو الحسن :
عمارة في الخارج! (يخرج إلى المقهى ويتبعه ثلاثتهم.)
أبو الحسن :
عمارة!
عمارة :
نعم يا عم أبا الحسن.
أبو الحسن :
أين كنت يا ولد؟
عمارة :
في بيتنا يا عم أبا الحسن.
أبو الحسن :
كل هذه الأيام.
عمارة :
أي أيام يا عم أبا الحسن؟ لقد كنت هنا أمس.
أبو الحسن :
أمس! أمس يا عم عمارة!
عمارة :
ماذا جرى لك يا عم أبا الحسن؟ ... ألم أسلمك إيراد المقهى أمس قبل أن ألم الكراسي؟
أبو الحسن :
وكم كان إيراد المقهى؟
عمارة :
دينار وعشرة دراهم.
أبو الحسن :
كنت هنا أمس يا عمارة؟!
عمارة :
سلامتك يا عم أبا الحسن.
جمالات :
اسمع، نصف مهر البنت لك والنصف لي.
أبو الحسن :
إذن فقد كان حلما. (يدخل إلى بيته ويعبر القاعة ذاهلا ويخرج من المسرح وتتبعه جمالات.)
جمالات :
نعم! أظن لم تسمعني! النصف لك والنصف لي. (تخرج وراءه.)
قمر :
نفعت الحيلة.
إسماعيل :
لولا أنني ألهمت أن أترك له المهر ما قبلت الزواج منك.
قمر :
نعم كان هذا إلهاما، أنت رائع يا إسماعيل! (يمر الناس بالمقهى مسرعين - كما كانوا في الفصل الأول - ولا يجلس أحد على المقهى، ثم يدخل التاجر.)
إسماعيل :
إنما أنت الرائعة. إن الفكرة كلها فكرتك، ولكني خجل.
قمر :
لماذا؟
إسماعيل :
سأتزوجك بلا مهر.
قمر :
بل إن مهري هو أغلى مهر تطمع فيه عروس.
إسماعيل :
أنا لم أقدم المائتي دينار كما تعلمين.
قمر :
ولكنك قدمت حبك.
إسماعيل :
كلام شعراء.
قمر :
ألا تحب كلام الشعراء؟
إسماعيل :
ترين، أيعود نور الدين إلى الشعرا؟
عمارة :
أنت جئت! أهلا وسهلا!
التاجر :
أهلا بك! هات القهوة.
عمارة :
أتريد القهوة حقا أم ندخل في الموضوع مباشرة؟
التاجر :
كما تحب.
عمارة :
طبعا أنت تريد القهوة لفتح الحديث معي وأنا مستعد للحديث دون مقدمات.
التاجر :
مستعد!
عمارة :
دون لف أو دوران، قالت أقبله لو عرفت فيما يتاجر.
التاجر :
إذن فلا فائدة.
عمارة :
أنت حر.
التاجر :
أمري لله، أنا تاجر جوار.
عمارة :
جوار؟!
التاجر :
نعم.
عمارة :
أنفس بشرية؟!
التاجر :
هي جوار على كل حال.
عمارة :
إذن خذ.
التاجر :
ماذا؟
عمارة :
كيس النقود الذي أخذته منك (يبحث عن الكيس)
الكيس! أين الكيس؟ لقد كان معي!
التاجر :
تقصد هذا الكيس؟
عمارة :
أهو معك؟
التاجر :
وجدته اليوم في جيبي .
عمارة :
فهو لك.
التاجر :
والذي بيننا؟
عمارة :
ليس بيننا شيء، ولن يكون بيننا شيء.
إسماعيل :
قمر، ألا ترين أن نخرج لنرى الناس ماذا يفعلون؟
قمر :
لقد عادوا إلى حياتهم.
إسماعيل :
لا بد أن أتأكد.
قمر :
اخرج إذا شئت.
إسماعيل :
ماذا ستفعلين؟
قمر :
سأبقى مع أبي أقنعه إن عاد إليه الشك.
إسماعيل :
خيرا تفعلين. (يتجه إسماعيل للخروج.) (تدخل قمر إلى البيت.)
التاجر :
يا بني فكر.
عمارة :
تعال يا سيد إسماعيل.
إسماعيل :
ماذا تريد يا عمارة؟
عمارة :
لحظة إذا أذنت.
إسماعيل (يتقدم إليه) :
ماذا؟
عمارة :
يا سيدي التاجر، أقدم إليك السيد إسماعيل خطيب الست قمر الزمان، رجل يحب الشعر والجمال والفن ولا يتاجر في الأنفس البشرية.
التاجر :
أتركك بخير يا عمارة (يخرج) .
إسماعيل :
أكان يريد أن يخطب قمر الزمان؟
عمارة :
وانتهى الأمر يا سيد إسماعيل، انتهى الأمر. (يدخل نور الدين مهرولا.)
نور الدين :
إسماعيل، لقد صح ما توقعته، إنك هنا، لقد عدت أقول الشعر يا إسماعيل.
إسماعيل :
أكملت الأبيات؟
نور الدين :
أكملتها، أكملتها:
وقفت أجيل الطرف حولي فراعني
مدامع من عيني لا تتحدر
أهيب بها تهمي فتأبى ترفعا
وأزجرها تمضي فتعصي فأصبر
ومس فؤادي من نسيمك خطرة
فسالت دموعي فرحة تتفجر
حياة بلا دمع حياة بئيسة
وعيش بلا حس ممل مكدر
ولا خير في الدنيا إذا هي أصبحت
هناء بريئا عن دموع تحدر
جمال حياتي في دموعي وبسمتي
وأجمل أيامي قصيد ومزهر
سلام عليك. (ينصرف فرحا.)
إسماعيل :
إلى أين؟
نور الدين :
أقول القصيدة للناس، فلا جمال لها إذا لم يسمعها الناس. (يخرج.)
إسماعيل (يذهب إلى بيت قمر) :
يا قمر، يا قمر.
قمر :
نعم يا إسماعيل (تأتي إليه) .
إسماعيل :
لقد أكمل نور الدين القصيدة.
قمر :
إذن عادت الحياة كما كانت يا إسماعيل.
إسماعيل :
قد عادت الحياة إلى الحياة يا قمر الزمان. (ستار)
نامعلوم صفحہ