حياة الفكر في العالم الجديد
حياة الفكر في العالم الجديد
اصناف
22
الفرد الواحد ممثل للبشرية كلها لو أخلص حدس نفسه والتعبير عنها، فليس التمثيل النيابي في عالم السياسة - ذلك التمثيل الذي يعتمد على عد الأصوات - بشيء يذكر إلى جانب التمثيل الروحاني الذي يجعل فردا بعينه لسانا ناطقا معبرا عن زملائه في الإنسانية، مع أن هذا النائب الروحاني الناطق المعبر عن البشرية كلها يختار نفسه ولا يختاره أحد، وحسبه للظفر بهذا الشرف أن يحسن النظر إلى طبيعة ذاته، وأن يحسن الإنصات إلى صوت ضميره؛ لأن ذلك الصوت إن هو إلا صوت الله في صدره وفؤاده، إن المتأمل في نفسه، الصادق في التعبير عنها، إنما يجاوز حدود نفسه إلى حيث الوجود في قلبه وصميمه، يجاوزها إلى حيث الله «إن المتحمسين للدين ليتفقون في نهاية الأمر مع أبرد المتشككين نفسا على أننا (في الخلق الفني والإبداع الفكري) لا نأتي بشيء من عندنا، ومن نتاج عملنا، إنما كل شيء من الله ... كل كتابة تهبط علينا بفضل من الله، وكذلك كل عمل وكل ما نملك.»
23
ألا ما أكثر أن يريد الفرد شيئا، فإذا هو منتج لشيء آخر «إن نتائج الحياة لم تحسب ولا يمكن حسابها، والأشخاص الذين تتألف منهم صحبتنا، يتحدثون ويجيئون ويذهبون، ويصممون وينفذون الكثير، وينجم عن كل هذا أي شيء إلا ما نتوقع من نتائج.»
24
يخطئ الفرد دائما إذا ما ظن أنه قد حسب لكل شيء حسابه، فهنالك عقل كلي، ما عقول الأفراد إلا أجزاء منه، كل واحد منا تجسيد لذلك العقل الكلي؛ فهو يستطيع أن يتصل بذلك الكل اتصالا مباشرا ليستوحيه الحق، فإن فعل كان بذلك ممثلا لسائر الأفراد؛ لأنه عندئذ إنما يحيا حياة العقل الكلي لا حياة عقله الفردي باعتباره فردا مستقلا «إنني حين أقف على الأرض العارية ورأسي مغموس في الهواء الطاهر مشرئبا إلى اللانهائي، تزول عني فرديتي الوضيعة، وأصبح كإنسان العين شفافا، أصبح (بذاتي) لا شيء، لكني عندئذ أشهد الحقيقة الكلية، وتدور في نفسي تيارات الوجود الكلي.»
25
يريد «إمرسن» للإنسان أن يدرس الطبيعة، لكن أي طبيعة يعني؟ ليست هي الطبيعة التي قصد إلى دراستها «نيوتن»، الطبيعة الثابتة في اطراد ظواهرها، والتي تسير في مجراها بغض النظر عن الإنسان، بل الطبيعة التي يطويها الإنسان تحت سلطان شعوره الذاتي، هي طبيعة الشاعر لا طبيعة العالم، هي الطبيعة بعد أن نضفي عليها أنفسنا وحياتنا وفكرنا ومشاعرنا، هي الطبيعة التي نجدها مفرقة موزعة مجزأة فننسقها كونا واحدا، بحيث نرى العلاقة بين الشمس الطالعة وزقزقة العصفور، هي الطبيعة كما تلتقي فيها خيوط الإنسان الروحية، فتكون ملكا له لا تلك التي يخضع لها الإنسان، ويكون ملكا لها، لو نظر الإنسان إلى الطبيعة هذه النظرة التي تجعلها جزءا منه، أو إن شئت فقل تجعله جزءا منها، فعندئذ يزول شعور الإنسان بانفصاله عنها، ولا تصبح ثنائية بين الذات من جهة والموضوع من جهة أخرى، بل تصبح الذات العارفة والموضوع المعروف شيئا واحدا متصل الوجهين، عندئذ يشعر الإنسان شعورا حيا بما بينه وبين الطبيعة من وشائج القربى، إن الطبيعة لا تبوح بسرها لمن يتناولها كما يتناول الجثة الميتة يشرحها بمبضعه، بل تبوح بسرها الدفين لمن يقبل عليها إقبال العاشق، إقبال من يريد أن ينمحي في أحضانها، فلئن كان العالم يبحث في الطبيعة عن وجهها الموضوعي الثابت الذي لا يتغير على مر الزمان، فالشاعر ينشد فيها وجوهها المتغيرة أبدا المتجددة أبدا، فهذه الطبيعة الحية الدفاقة هي وحدها التي تعكس للإنسان حالاته في حالاتها، تعبس لعبوسه وتفرح لفرحه.
وما كل إنسان بقادر على أن يصعد في إدراكه للطبيعة إلى هذه القمة إلا بعد تدريب وتهذيب، فهنالك - على وجه الإجمال - درجات أربع في علاقتنا بالطبيعة، تتفاوت فيما بينها انخفاضا وارتفاعا، وكلما ازداد الإنسان روحانية في علاقته بالطبيعة صعد في تلك الدرجات الأربع درجة بعد درجة، وأولى تلك الدرجات وأدناها هي علاقة المنفعة، فمن الطبيعة نأكل ونرتوي ونصنع الثياب والمنازل، وحتى في هذه الدرجة الدنيا تستطيع أن ترى أنه بغير الحب الإلهي يكون محالا على الطبيعة أن تنفع وعلى الإنسان أن ينتفع؛ ذلك لأن المنفعة لا تتم في كل حالة من حالاتها إلا بسلسلة طويلة من تعاون الأجزاء واتساق الظواهر الطبيعية، بحيث تنتهي إلى النتيجة المطلوبة لنفع الإنسان، فلا الشمس وحدها ولا الريح ولا المطر ولا النبات ولا الحيوان وحده ينفع الإنسان، بل لا بد من اجتماع هذه العناصر كلها متعاونة متناصرة متآخية «فالريح تبذر الحب، والشمس تبخر ماء البحر، والريح تدفع البخار إلى الزرع، والمطر يروي النبات، والنبات يطعم الحيوان.»
26
نامعلوم صفحہ