إن تفاصيل هذا النهار المشهور قد عرفت لكثرة من كتب عنها، ولكن ثمة أشياء لم تعرف، وهي تمثل لنا الفصل الأول من هذه الرواية، وقد ذكر بعضها المستشار كوندر قال: رأيته في التويلري فوق جواده الأشهب وهو يقصد إلى سان كلود، وكان وجهه طويلا نحيلا أصفر، وشعره الأملس مقصوصا إلى فوق الأذن، وعلى رأسه قبعة صغيرة، وقد ذكر بعضها الآخر ألبر فاندال قال: خرج بونابرت من موكبه ودخل بين الجماهير وحده مكشوف الرأس، ودنا من المنبر فعلا الضجيج والصياح: ليسقط الدكتاتور ، ليسقط الظالم. ونهض الجمع بأسره مظهرا غضبه على الرجل الوقح الذي جاء بسلاحه وحذائه يخرق حرمة ذلك المعهد كأنه قيصر الرومان.
وفي أسرع من لمح البصر كانت الجماهير قد التفت من حول الجنرال، هذا يشتم، وهذا يتوعد، وهذا يمد يده إليه ويمسكه من عنقه ويهزه بعنف، فلم يقو هذا الرجل العصبي المزاج الشديد التأثر الذي كان يتجافى الجمهور وينفر من الازدحام على احتمال هذا الثقل الذي انحط عليه، لم يقو على ملامسة هذه الأيدي المتوحشة واستنشاق هذه الأنفاس الخارجة بالشتيمة من أفواههم والهواء الساخن المختلط بتلك الأنفاس، فأحس بضعف وانقباض صدر وغشاوة بصر وأغمي عليه.
كم من الزمن شغلت غيبوبته؟! كان من عادة الغضب عند نابوليون أن يرجع إليه التوازن المفقود شيئا فشيئا، فلما عاد وعيه أخذ يشتم المجمع ويشكو من اعتداء الناس عليه، ويصرخ «يا للقتلة!» وهو على جواده بين جيئة وذهاب، وقد خدش وجهه المصفر بأظافره من الغضب حتى سال الدم، وذاع أن نابوليون مجروح في جبينه، وبفضل هذا الجرح رجحت في جانبه كفة الميزان، فكفى أخاه لوسيان أن يدل الجماهير عليه وعلى الدم المتجمد على وجهه بصوت وحركات لا يفرق فيها عن أبرع الممثلين؛ ليصل إلى قلوبهم ويخفف من حدتهم وغضبهم.
ولم تفده «القنصلية» في تحسين صحته، بل ظل كالأول هزيلا أصفر، ولكن نظره الساحر كان يدل على فكرة وقادة وتبصر غريب، وقد وصفه أحد الإنكليز بقوله: كانت ملامحه تدل على السوداء والتفكير العميق، وقلما كانت تعرف شفتاه الجميلتان الابتسام، أما عيناه فكانتا متقدتين كجذوة من نار، وصوته عميقا كأنه خارج من القبور.
وقال فيه الشاعر روجر: إن اصفراره كان اصفرار الموت، واتفاق الجميع على ذكر اصفراره دليل على ما كان عليه من المزاج الصفراوي، فهو يدخل في تلك الفئة التي يسميها اليوم الأستاذ جلبر الأسرة الصفراوية.
وإذا كان التشخيص على ما يقدمه لنا الوصف شيئا لا يخلو من الجسارة، فإنه هنا سهل لاتفاق الكل على نقطة معينة، ولا سيما لأن ذلك كان قبل الزمن الذي ارتقى فيه نابوليون ذروة المجد، فصار في عين الأمم، كما قال فريدريك ماسون: أبعد من أن تناله عاديات الزمن والحياة والشيخوخة.
قال الشاعر ألفرد ده فيني: بونابرت الرجل ونابوليون الوظيفة، الأول يلبس قبعة والثاني تاجا.
ولكن هذا النحول الذي رافقه في الأدوار الأولى من حياته سيتبدل مع الزمن، فينتفخ الوجه والبدن ويخف شعر الرأس ويحول اسوداده ويصير كما قال عنه أحد التجار الألمان وقد التقى به في جزيرة ألبا: «إني عرفت هذا الرجل قديما، فلما رأيته اليوم كدت لا أعرفه، نعم، إنه لم يعد ذلك الرجل، إذا نظرنا إليه الوجهة الطبية»، وهذا ما سنظهره في الفصول الآتية.
الفصل السادس
اجتماع نابوليون بكورفيزار
نامعلوم صفحہ