وليس شيء في الدنيا أسوأ من الاستعمار الأجنبي سوى التقاليد الشرقية المتحجرة، وليس شيء في الدنيا أسوأ من التقاليد المتحجرة سوى الاستعمار الأجنبي، ولكن مع ذلك حين أتأمل بعض الأمم التي لا تزال تعيش في استقلالها واستبداد تقاليدها أحس كأني أرغب في استعمار أجنبي يصفعها الصفعة المنبهة التي توقظها وتنبهها وتحملها على إلغاء تقاليدها. •••
ثلاثة رجال يبرزون في حياة غاندي من حيث تكوينه وتوجيهه في التفكير الاجتماعي، وهؤلاء هم: ثورو وتولستوي وروسكين، وكانوا جميعا من المتمردين على الحضارة الأوروبية يحاولون الارتداد عنها إلى ما هو أبسط وأقل تعقدا، وأميل إلى الخدمة والتعاون دون السلطة والاستثمار، ولا يستطيع المتأمل لنشاط هؤلاء الثلاثة، الدارس لأفكارهم ونظرياتهم ومثلياتهم، أن يقول إنهم كانوا على بصيرة تامة بالحضارة الأوروبية ومنتهاها، ولكن تمردهم كان بمثابة التنبيه إلى ما فيها من أخطار تلصق بالمجتمع الاقتنائي الذي انتهت إليه حيث يعيش كل فرد وغايته الاقتناء والإثراء في مباراة عنيفة قاتلة.
كان ثورو أمريكيا، ولد في عام 1817 ومات في عام 1862، واشتغل بالتعليم وبغيره، ولكنه في عام 1845 ترك حياة المدن وهاجر إلى الغابة، حيث بنى لنفسه كوخا، وجعل يعيش حياة بدائية بصيد السمك من بحيرة قريبة، ويأكل الثمار البرية، ويعمل بالأجرة في الحقول القريبة، وكان يقضي معظم وقته في تأمل الحيوان والنبات في الغابة وهو واضع عبارة «العصيان المدني» التي أخذها عنه غاندي، وكان يعني بهذه العبارة أن لكل فرد الحق في أن يستقل بشخصيته، ويرفض العادات والمطامع الاجتماعية، ويعيش وفق مثلياته الخاصة، وهو عاص لا يخضع للمجتمع، وبقي إلى عام 1847 بالغابة حين عاد إلى المدينة وعاش مع صديقه «إمرسون» وألف كتابا بعنوان «والدن أو الحياة في الغابة»، وهو يروي في هذا الكتاب اختباراته، وكيف أن حاجاته جميعا من لباس وغذاء وسكنى لم تكن تكلفه سوى القليل من الجهد والقليل جدا من النقود.
وواضح أن غاندي حين ترك المدن وآوى إلى معتكفه في الطبيعة يقنع بما تدره عليه عنزته من اللبن والجبن، وأيضا بقنوعه بتلك الشملة التي كان يشتمل بها دون أي لباس آخر، إنما كان يستضيء بثورو في حياته في الغابة. ومكافحته للإنجليز الاستعماريين بشعاره «العصيان المدني» يعود إلى القدرة على الاستغناء، فإنه نبذ الرفاهية فضلا عن البذخ وقنع بالقليل الذي لا يستطيع الإنجليز أن يحرموه منه، وكان ثورو على الدوام في ذهنه: رجل قانع يعمل عندما يحتاج ويرتاح ويتأمل الشمس والشجر والماء والسحاب عندما لا يحتاج، والحضارة القائمة تدعونا إلى الاقتناء والإثراء والجهد والمباراة، ولكن عبارة ثورو هي كيف نستغني؟ وليس كيف نقتني؟
أما تولستوي فليس هناك من يجهله، فقد ولد في عام 1828، ومات في عام 1911، وكان فنانا عظيما يؤلف القصص الخالدة كما كان أخلاقيا متمردا على الحضارة أيضا مثل ثورو، وقد حرمته الكنيسة الروسية؛ لأنه ألف كتابا عن إيمانه وصف فيه المسيح باعتبار أنه إنسان عظيم لا أكثر، وأن دعوة المسيح إلى الحب البشري هي الخلاص لجميع الناس وأن «ملكوت الله» كما جاء في الإنجيل ليس حياة أخرى بعد الموت، وإنما هو في قلوبنا وأنفسنا وعالمنا هذا، وأنه يتحقق بالحب بين البشر. وقد عاش في الأرض التي ورثها عن عائلته، وحاول تسليم هذه الأرض للفلاحين، ولكن عائلته منعته، وكان يصنع الأحذية بنفسه للفلاحين، كما أنه أنشأ مدرسة لأولادهم وأصدر مجلة في التربية، وقبل وفاته بنحو عشرة أيام خرج هاربا من بيته يريد أن يرضي ضميره ويعيش كأحد الفلاحين.
وقرأ غاندي مؤلفاته وهو في أفريقيا الجنوبية فتأثر بها كثيرا، وكان أن أسس ما سماه «مزرعة تولستوي» حيث كان يعلم أبناء الهنود ويزرع أرض المزرعة، ومن هنا نشأت عنده فكرة التعلم بالعمل، وهي الفكرة التي أحالت التعليم إلى تربية.
ويرى كثير من الناقدين أن الخطة التي اتبعها غاندي في مكافحته للاستعمار في الهند وهي «المقاومة السلبية»؛ أي تقبل العدوان في صمت وثبات إنما ترجع إلى تعاليم تولستوي في شرحه للمسيحية، هذا الشرح الذي جلب عليه حرمان الكنيسة له حتى قال رومان رولان الأديب الفرنسي المعروف: «وحسبي ما قلت كي أبين أن غاندي كان ينطوي على قلب إنجيل خافق تحت كساء من الإيمان الهندوكي.» أما روسكين الذي أحبه أيضا غاندي فكان من الأدباء الإنجليز، وقد ولد في عام 1819، ومات في عام 1900، وألف عددا كبيرا من الكتب في الفنون والأخلاق والاجتماع، ولما مات أبوه عام 1855م ترك له ثروة قدرت وقتئذ بمبلغ مائة وخمسين ألف جنيه، فلم يمتلكها بل تبرع بها للمنشآت الاجتماعية والتعليمية وقنع هو بأن يعيش بقلمه. •••
لم يكن غاندي يضع القواعد كي يتقيد بها، وإنما كان يفرض القاعدة أو المبدأ للاسترشاد الأخلاقي في الخطة العملية؛ ولذلك نجد أن التزامه للمقاومة السلبية لم يكن جامدا؛ إذ هو كان يلجأ إلى العمل الإيجابي من وقت لآخر؛ أي إن «العصيان المدني» لم يكن عنده ركودا أو اعتزالا أو خمودا، وإنما كان أيضا عصيانا مباشرا كما نرى في حادث الملح. ذلك أن الحكومة الهندية كانت في استغلالها الإمبراطوري تحتكر صناعة الملح، وهو إدام أو تابل يحتاج إليه كل فرد، فالكسب عظيم منه والضرورة تكفل رواجه الدائم، ورأى غاندي في سنة 1930 أن ها هنا فرصة يجب أن تستغل لتحريك التمرد على الاستعمار وتجرئة الشعب الهندي على عصيان القوانين، والأخذ بالشجاعة فدعا إلى مظاهرة شعبية تبدأ من معتكفه حيث كان يقيم إلى شاطئ البحر حيث الملاحات الحكومية.
وهناك يخالف غاندي القانون عمدا وينزل المتظاهرون إلى الملاحات ويحملون الملح مجانا، وكافح المستعمرون هذه المظاهرة بكل الوسائل ووجدوا من الهنود أنفسهم من أيدهم في تزييف هذه الحرية أو شلها، فمنعوا القطارات من السفر إلى الشاطئ، ومنعوا الخطابات، وعطلوا الصحف وراقبوها وأوفدوا البوليس والجيش يحمل كل فرد منهم هراوة ضخمة، ثم أنحوا على المتظاهرين بالضرب أو بالأحرى بالخبط حتى تحطمت الرءوس والأجسام، وخضبت الأرض بالدماء، وألقوا القبض على رأس الفتنة، وداعية العصيان غاندي.
ولكن كل هذا لم يهزم المتظاهرين، وبقي العصيان يفشو ويزداد وامتلأت السجون وفاضت، فأسس الإنجليز حظائر من الأسلاك يحبسون فيها الثائرين، وأصبح المسجونون يعدون بمئات الألوف، وانتشر روح التمرد في جميع أنحاء الهند فامتنع المالكون من أداء الضرائب، واستقبال ألوف الموظفين، وتراءى للإنجليز أن الثورة تسير في طريق النجاح وأن الأداة الحكومية قد شلت، وعندئذ فكروا في أسلوب آخر للمكافحة، فإنهم إلى جنب الضرب والاعتقال عمدوا إلى الحكم بالغرامات، ولكنها كانت تجربة تعلم منها غاندي وتعلم الهنود كيف يكافحون وفهموا وفكروا ودبروا.
نامعلوم صفحہ