اختلافي هنا مع فرويد في الدرجة كما هو في الموضوع، فأنا أسلم بأن خيال الأم أيام الطفولة يلصق بالطفل سائر حياته حتى ليختار زوجته من طراز أمه، وهو ينظر إلى رئيسه الأعلى ومن دونه إلى الرؤساء نظرته الطفلية إلى أبيه.
ولكن إذا سلمنا بأن هناك دوافع جنسية بين الطفل وأمه فإننا يجب ألا ننسى ما هو أهم منها، وأحرى بأن يكون الميزان الذي توزن به السكينة أو الاضطراب النفسي طوال العمر؛ ذلك أن تعلق الطفل بأمه والتصاقه بها أيام الطفولة، يجعله يحس نحوها بأنها مركز أمنه وطمأنينته، وهي موئله ومكان استغاثته عند الخوف، ومركب أوديب في هذا المعنى هو مركب الاحتماء من الخوف والخطر أكثر مما هو مركب الاشتهاء الجنسي.
والأم هنا تمثل المجتمع، فإذا كانت قد أسرفت في حماية طفلها فإنه ينشأ عاجزا كارها للاقتحام ينشد السلامة مهما كانت وضيعة ... وإذا كانت قد أسرفت في تقييد حريته، فإنه ينشأ خائفا ضائقا بالصعوبات والأخطار الخفية، وهو ينشد من يحميه أو ما يحميه في شخص كالزوجة أو الرئيس، أو في عمل مستقر قد يكون قليل الكسب.
ولما كانت حياتنا الاجتماعية الاقتصادية حافلة على الدوام بالأخطار، غير مطمئنة إلى المستقبل، يكثر فيها الإفلاس والتعطل وخوف المرض والموت والقلق على الوظيفة أو الأبناء، وخوف الهزيمة في الحب أو المباراة الاقتصادية العامة، فإن القلق الذي يصيبنا من جميع هذه الحالات يتخذ الأسلوب الذي نشأ عليه مع الأم أيام الطفولة. ولكن إذا كانت علاقة الأم بطفلها أو مركب أوديب، قائمة على التوسعة للطفل في مجال الحرية، بحيث يتعود الجراءة ويقدم ويخترع اختراعاته الصغيرة، فإنه عندما يكبر يستطيع تحمل الصعوبات بل يضحك من الأخطاء، ولا يخشى عليه من نيوروز أو سيكوز؛ أي من مرض عصبي أو عقلي.
ولست أجد في كل هذا تناقضا مع بافلوف الذي يرد عاداتنا الذهنية وعقائدنا وأفكارنا إلى تلك الرجوع الانعكاسية الأولى أيام الطفولة، ثم ما ينشأ منها من رجوع مكيفة؛ أي معدولة عن أصلها. ويكاد الفرق بين فرويد وبافلوف يكون سيميائيا أو لغويا في اختيار الكلمة أو أسلوب التعبير، ولكني لست فرويديا من حيث إيمان فرويد بأن لنا غرائز ثابتة موروثة في الرغبة في العدوان أو الموت، أو في هذا الاتجاه الأخلاقي، أو نحو ذلك. فقد وصلت بدراساتي الاقتصادية إلى أن التربية وحدها: العائلية، والاجتماعية، هي التي تعين لنا عواطفنا من حب وكراهية واستلطاف أو اشمئزاز، وكفر أو إيمان، وخضوع أو تمرد، وظني أن هذا هو الفرق الأساسي بين فرويد وبافلوف؛ الأول يكاد يكون غريزيا مائة في المائة، والثاني يكاد يكون اجتماعيا مائة في المائة.
وبكلمة أخرى أقول إن المجتمع يفرض لنا أسلوبا للارتزاق، فيعين لنا بهذا الأسلوب ووسائله العواطف التي تسود نفوسنا من غيرة، وتحاسد إلى تعاون وحب، ومن مباراة تهدف إلى التفوق وتحمل في غضونها ما يلابسها من إحساسات القلق، وطينة تجمعنا في وجهة موحدة نحو خير المجموع، وعواطفنا التي تحرك نشاطنا هي جميعها ثمرة هذا النظام الارتزاقي الذي يرتب لنا معاني الضعة والشرف والخسة والسمو، ولن نستطيع أن نفهم معنى الانتحار أو الثأر والأمانة، أو الخيانة الزوجية، أو قوانين الزواج أو الطلاق، إلا إذا رجعنا إلى تلك النظم الأصلية التي يرتزق بها الناس من صناعة أو زراعة ونحو ذلك.
وأنا أعد نفسي ممتازا على فرويد من هذه الناحية التي أعجب من إهماله لها، وهو إهمال خطير؛ لأن سيكلوجية فرويد الغريزية تعد راكدة جامدة إلا من حيث إنها تدعو إلى التفريج كي يقل الكظم، ولكن هذه السيكلوجية الاجتماعية التي تعلل العواطف بنظام المجتمع تعد متحركة ارتقائية؛ لأنها تنشد ترقية المجتمع لإيجاد العواطف البارة السارة، بل إن العلاقات الجنسية نفسها، على ما تنبني عليه من أساس طبيعي، تتكيف بالمجتمع بحيث تكون سوية أو شاذة؛ لأن الشذوذ الجنسي العدواني مثلا هو اجتماعي في أصله، أو إذا كان هناك أساس طبيعي له فإن هذا الأساس لا يعلل أكثر من أربعة في المائة من الاتجاه العدواني. وكذلك الشأن في مركز المرأة العاطفي من الرجل، فإنها كما أثبتت «مارجريت ميد» ليست على الدوام مطلوبة مغرية مزدانة كما هو الشأن في مجتمعنا؛ إذ هي قد تكون عكس ذلك كله.
وقد يزدان الرجل ويطلب من المرأة أن تغازله وتحاول استرضاءه واجتذابه. ومع أن المدارس «التحليلية» قد تعددت واختلفت أساليبها، فإنها جميعها ترجع إلى فرويد، ولا يكاد يوجد فيها إلا القليل الذي أوجده أدلر بما أسماه «مركب النقص».
فرويد يعلق النشاط الذهني والاجتماعي والفني والديني إلى «اللبيد» الجنسي الذي نشأ من الكظم السابق أيام الطفولة بحب الأم وكراهة الأب؛ أي بمركب أوديب.
وأدلر يعلق هذا النشاط، أو النشاط الشخصي على الأقل، بالنقص الكامن الذي نشأ في الطفولة ثم حرك عواطف تحفز وتوجه سائر العمر.
نامعلوم صفحہ