ومن علامات النضج في الإنسان أن يرتفع من همومه الشخصية إلى الاهتمامات العالمية.
ومن علامات النضج في الأديب أن يرفع الأدب من آراء وإحساسات تكتب إلى ممارسة في الحياة، ففن الكتابة عنده يستحيل عندئذ إلى بعض الفن في حياته هو. ومن علامات النضج أيضا أن يتعرف الأديب إلى قوات الخير البازغة فيؤديها وينضم إليها ويكون من جنودها أو قوادها.
وقد حقق جيته كل هذه الأنواع الثلاثة من النضج، فإن اهتمامه بالعالم طغى على كل اهتمام شخصي آخر: نظرية التطور، قناة السويس، اتحاد أوروبا، الديانات الشرقية.
وحقق الفن والحب في حياته، فإن كلمة الحب لم تكن من كلمات القصص التي كان يؤلفها وإنما كانت عاطفته الغالبة التي كان يمارسها. وقد عاش في أيام الانتقال من حكم النبلاء والنظم الإقطاعية إلى حكم الصيارفة والصناعيين والتجاريين، هذا الحكم الذي عمم الديمقراطية والحرية فانضم إلى هذه القوة الجديدة ودعا إلى تأييدها، بل إننا نستطيع أن نجد هذا الاتجاه في قصته «فاوست»، بل لعل هذا الاتجاه هو التفسير الحقيقي لهذه القصة.
وهناك بالطبع من يسأل عن مذهب جيته في الحياة والأدب والحضارة، ولكننا نحن الذين أحببنا جيته لا نكسب منه معارف؛ لأن معارفنا أكبر جدا من معارفه، كما هي أكبر من معارف أرسطو طاليس أو أفلاطون، وإنما نحن نكسب منه منهج الحياة الذي اتبعه، وهو منهج التعلم والاختبار والاستمتاع.
نكسب منه الحياة الفنية، أو كما كان يقول حرية الروح: «إن أي إنسان عرف وفهم مؤلفاتي وشخصيتي حق الفهم يضطر إلى الاعتراف بأني قد حققت لنفسي حرية الروح.» •••
كيف كان يعيش جيته؟ وكيف كان ينظر إلى نفسه؟ أي ما مقدار وجدانه بشخصيته؟
كان جيته يخشى الشتاء؛ لأن النهار يقصر والليل يطول، وكان يتعب من القراءة في ضوء الشموع، وكان هو الذي يقص بنفسه فتيلة الشمعة، وكانت آخر كلمة نطق بها قبل الوفاة: «النور»؛ لأن النور كان عنده وسيلة التثقيف والتفكير، والحياة الحيوية، ولذلك كان يحب الصيف ويكره الشتاء.
وكان يعيش نهاره كله، فلا ينام؛ أي لا يقيل، وكان يفطر في الساعة الحادية عشرة بفنجان من اللبن والشكولاتة، ثم يتغذى في الساعة الثانية، ثم يتنزه، ثم يكون العشاء، فالقراءة والدراسة.
ولما بلغ الثمانين كتب في يومياته: هل بلغت الثمانين؟ وهل يجب علي لذلك ألا أتغير، بل أعمل كل يوم مثل اليوم السابق؟ إني أحس كأني أختلف عن سائر الناس، وأبذل مجهودا أكبر منهم كي أفكر كل يوم في شيء جديد، حتى أتجنب السأم، أجل! يجب أن نتغير على الدوام وأن نجدد شبابنا على الدوام، وإلا تعفنا.»
نامعلوم صفحہ