وكذلك انتفعت بفصلها من الدولة؛ لأن اعتلاء الدين للدولة يضر الدين ويحطه؛ إذ يغنيه عن القوة الروحية والأخلاق السامية بما يستمتع به من قوة بوليسية وحماية قانونية. والدين يجب أن يتجرد من أي سلطان مادي؛ أي حكومي أو بوليسي، حتى يستنبط قواه الروحية المستقلة ويصل إلى القلوب عفوا دون مساعدة خارجية.
وهذه هي مهمة فولتير التي علمها لأوروبا، مهمة الحرية الفكرية وفصل الدين من الدولة.
وليس لفولتير عبرة أو دلالة واحدة لعصرنا، وإنما له عبر ودلالات كثيرة، فإننا نفهم منه أن حرية العقل وحرية العقيدة وحرية الضمير هي أثمن ما يملكه البشر، وأن الحكومة أو الهيئة التي تنتهك هذه الحريات ترتكب أفظع الجرائم، وهي جريمة الخيانة للروح البشري. وعبرة أخرى نستخلصها من حياته هي أن الأديب ليس رجل القلم والحبر، وتقليب الكتب واجترار الأقوال القديمة، وإنما هو المكافح المبتكر الذي يشترك في هموم البشر واهتمامات المفكرين دعاة التطور والرقي، وأن أدباء البرج العاجي الذين يقفون بعيدا عن معترك الحياة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية لا قيمة لهم ولا منفعة منهم، بل هم بمثابة الجندي الفار من المعركة.
وعبرة ثالثة هي أن بؤرة الأديب شخصيته، من حيث إنه يكتب عن إحساس ووجدان بما يحس ويجد، ثم يصدر عن ذلك مفكرا للتنظيم والتوجيه؛ ولذلك قيل إن أسلوب الكاتب هو شخصيته أو هو أخلاقه، ومن المحال أن يقنعنا كاتب فاسق بضرورة الطهارة، أو كاتب يتعلق بالمستبدين وينتفع منهم بضرورة الديمقراطية.
ولقد عشت حياتي وهنئت أيما هناء، وتعزيت أحيانا أيما عزاء، بمرافقة فولتير وتأمل كلماته وتتبع حياته في أخطائها وأخطارها وتطوراتها، وعرفت منه معرفة الإحساس والوجدان معا أن حرية العقل هي قدس الأقداس في النفس البشرية.
كانت حياة فولتير كفاحا نجح فيه، ورد إلى الإنسان حريته بعد أن كانت قد حرمته إياها الكنيسة والدولة، واستطاع أن يحمل جماهير أوروبا على الإيمان بالطبيعيات بدلا من الغيبيات إلى حد بعيد، كما استطاع أن يرد إلى التاريخ مكانته، وأن يجعل للتنقيب التاريخي فضل الاهتداء إلى الحق والباطل في العقائد. ودعا إلى العقل دون العقيدة، وأكبر لذلك من شأن «بيكون» داعية التجربة و«ديكارت» داعية العقل. وكان على وجدان برسالته التاريخية من حيث إنه رائد العصر الجديد، عصر القلم والعلم. وقد كتب في عام 1760 إلى «هيلفيتبوس» يقول: «إن هذا القرن بدأ يرى انتصار العقل.»
ولقد عشت في هذا الوطن الأسيف - مصر - نحو ثلاثين سنة من عام 1914 إلى عام 1949 في أسر الأحكام العرفية والرقابة القلمية؛ وذلك كي يعيش المستعمرون من الإنجليز، والمستبدون من المصريين، وهم في تحالف لمنع الحريات عن الشعب. وقد ألفت كتابين عن الحرية هما: «حرية الفكر»، وهو تاريخ للأبطال الذين كافحوا التعصب والاستبداد والرجعية والجهل. ثم «حرية العقل في مصر»، وهو دعوة إلى إلغاء إدارة المطبوعات التي تمنع إصدار الجرائد والمجلات إلا بعد تأدية غرامة مالية (في صورة تأمين). وفي كلا الكتابين أنعام تتردد من ذكرى فولتير.
وقد كان فولتير يقول: «إني قلما أتعمق، ولكني واضح الفكرة على الدوام.» وهذه كلمة أستطيع أن أقولها أنا أيضا، وإذا كنت في حياتي الأدبية قد وصلت إلى أن أختص بأسلوب، فإني أعترف هنا بأني لم أقصد قط إلى هذا الهدف، وإنما كانت غايتي أن أصل إلى التعبير الجلي الذي يوضح فكرتي، وأظن أني نجحت في ذلك.
وعند الفرنسيين مثل يقول: «ما ليس واضحا ليس فرنسيا»، ولهم الحق في ذلك، وهذا الوضوح يعزى إلى التزامهم المنطق السليم الذي تعلموه من فولتير وأمثاله.
جيته
نامعلوم صفحہ