فالتفتت إليه نائلة وقالت: وإذا تم خروجك من السجن سالما فاذهب إلى دار ابنة خالي، وهي مصاقبة
1
لدار ابن الحناط الكفيف، فاختف عندها حتى ندبر وسيلة للفرار من قرطبة، وسأخبرها الليلة حتى لا تدهش للقائك، ولا تخش عندها شيئا، فهي تعيش مع خادم عجوز بلهاء، زادتها السن خرفا وبلاهة. وبعد أن طال الحديث في الفرار وعواقبه، وفي تقصي كل ما يزيل عنه أسباب الخطر ، ودعتاه وانصرفتا.
وجاء الغد، وجاء السجان بالعشاء، وكان خبيثا لئيم الطبع، استعار قلبه صلابته من قضبان السجن وأغلاله، فلما رآه ابن زيدون بسط له وجهه وقال: ألا تزال كعهدي بك عابسا يا مخلف؟ - وما عليك من عبوسي إذا كنت منشرح الصدر مسرورا؟! - لقد وطنت نفسي على الآلام ورضيت السجن منزلا، وأنزل الله علي سكينة غسلت همومي، وعادت بي إلى الإيمان الحق والخضوع لأحكام القدر. - كلهم عندنا يعودون إلى ما عدت إليه، فهم أول الأمر ينوحون ويصخبون ويسخطون على الأرض والسماء، حتى إذا عركهم السجن وأذل نفوسهم، عادوا إلى التسليم بأحكام القدر، ورأوا أن لا بد مما ليس منه بد. - إن النقم يا مخلف لا تخلو في أطوائها من نعم. فليس في تصاريف الأيام شر محض ولا خير خالص. أليس من محاسن السجن أن نأمن الوشاية، وننام ملء العيون، لا نخاف حديث نمام ولا وقيعة كاشح
2 ؟ أليس من محاسن السجن أن نبتعد عن الناس وما يرتكسون فيه من شرور وآثام؟ أليس من محاسن السجن أن ينصرف المرء إلى ربه كما ينقطع الزهاد لعبادته في قمم الجبال؟ أليس.. فعجل مخلف وقال: كفى يا سيدي! فقد كدت تجعل من السجون جنات تجري من تحتها الأنهار. فضحك ابن زيدون ومد يده إلى مائدة الطعام وهو يقول: أرني ما أحضرت إلينا اليوم يا مخلف. - إن به ألوانا يسيل لها اللعاب. - هذا ديك مشوي، وهذا لحم متبل بالأفاويه، وهذا رقاق محشو بالجوز، وهذا تين ما لقي، وهذا فالوذج بالفستق. ما أحبه إلى نفسي! ثم ابتسم وقال: ولكنني أراك تكثر من النظر إليه يا مخلف، فخذه بارك الله لك فيه! فليس أشهى إلي من أن أشهد رجلا يأكل ما اشتهى. خذه يا مخلف ومتعني برؤيتك وأنت تأكله. التهمه يا مخلف فلم يوضع من قبله طعام في بطن من هو أحق به منك.
وما كاد يلمح مخلف في عين ابن زيدون أنه لا يمزح حتى وضع رأسه في الطبق ولم يرفعه إلا والطبق أجدب من كف اللئيم. ولم تمض لحظات حتى أخذ يترنح ويغمغم بألفاظ لم تستقم حروفها، ثم سقط على الأرض لا يعي. فهب ابن زيدون مسرعا، وجرده من ثيابه فارتداها، وخرج من الحجرة في زي مخلف وفي مثل سمته
3
وعبوسه وهيئة مشيته وحركاته، فما كان يشك شاك في ظلام السجن وغبش
4
الليل أنه هو، واتجه نحو الباب، فصاح به حارس الباب: إلى أين يا مخلف؟ إن موعد خروجك لم يحن بعد.
نامعلوم صفحہ