في حبله. - ثقي أني لا أفوه بكلمة لأحد، عمي يا سيدتي مساء. - عم مساء يا أسبيوتو، وسنلتقي صباح الثلاثاء.
وما كاد يفارق الدار حتى كانت نائلة في قصر ابن جهور تقص عليه الأمر من أوله إلى آخره، فدهش الرجل وهز إحدى كتفي نائلة بعنف وهو يقول غاضبا: ثقي يا نائلة أنني لست ممن تلعب بهم النساء، فإن كان ما تقولين كذبا، فقولي إنه كذب أعفك من كل عقاب. - إنه حق صريح يا مولاي، والذي أطلبه منك أن تبعث أعوانك إلى داري يوم الثلاثاء في غبش الفجر، وأنا أعرف كيف أجد لهم مخبأ.
وجاء يوم الثلاثاء، وجاء أسبيوتو معه إلى دار نائلة، فقبض عليه الأعوان وعقلوه إلى قصر ابن جهور، وفتشت ثيابه، فإذا هو يخفي الرسالة في جبة مبطنة، وأحضر العارفون بالأسبانية فقرءوها وترجموها، ورأوا فيها إفشاء لسر الدولة، وحضا على غزوها، فغضب ابن جهور أشد الغضب وصاح بالجنود أن يحضروا عائشة. فانطلقوا إلى دارها كأنهم زبانية الجحيم، فلما رأتهم هلعت وطار صوابها، وحين قذفت بالتهمة جن جنونها، لأنها كانت تبالغ في الكتمان، وكانت تخفي أسرارها عن كل إنسان، فمن هذا الشيطان المريد الذي استطاع أن ينفذ إلى حجب الغيب، وأن يستل أسرارها المدفونة تحت أطباق الثرى؟ من هذا اللص الخفي الماهر الذي يسترق حديث النفوس، ويسطو على خلجات القلوب؟ من يكون غير نائلة؟ إن ابن زيدون في سجنه منذ شهور، فهو ليس من أهل الدنيا ولا من أهل الآخرة. ليس لي عدو إلا نائلة. عليها لعنة الله ولعنة الشيطان!
أنكرت كل شيء أمام ابن جهور، ثم رجت، ثم استعطفت، ثم بكت بكاء يقطع نياط القلوب، ولكن ابن جهور كان صخرا صلدا شديدا قاسيا، فحكم بقتل أسبيوتو في ميدان الخلافة، وبأن تجلد عائشة وتوسم بالنار في كتفها اليسرى، وتصادر أموالها، ثم تنفى إلى قشتالة. فجرها الأعوان من مجلس الحكم، وهي تبكي وتصيح وتضرب الأرض بقدميها، حتى بح صوتها، وخذلتها قواها. ووكل ابن جهور بها خمسة جنود ليصحبوها في سفرها.
وكانت نائلة على كثب من دار الجماعة تشرف على تنفيذ التدبير الذي أحكمت رسمه، كما يشرف القائد على خطة هجومه، فلما علمت بالحكم على عائشة أسرعت فبعثت بالبشرى إلى ابن زيدون وولادة، ثم أمرت حملة محفتها أن يتبعوا الجنود الموكلين بعائشة إلى مشارف المدينة، وهناك مدت يدها لتوديعها، وقلبها يفيض شماتة، وعيناها تفيض بدموع الانتصار. فصاحت بها عائشة في غيظ وتهديد: سنلتقي مرة أخرى يا نائلة! فقهقهت وهي تقول: نعم في الأفراح والسرور!!
الفصل العاشر
بلغت عائشة مدينة «برغش» بقشتالة بعد جهد وعناء وأين، بلغتها يائسة محطمة، غليلة الجسم والنفس: ذهبت أموالها، وانتزعت من عزها وجاهها كما ينتزع الظفر من اللحم، وفتحت عينيها فرأت كل نعمة تنحل عنها كما تنحل ثلوج جبال نيفادا إذا لفحتها شمس الصيف، وشاهدت كل أمل ينفر من حولها كما تنفر الطير وقد ألقيت بينها بحجر.
كانت الطريق وعرة، والبرد شديدا، والسير حقحقة،
1
والجنود جفاة، فمن أين لعائشة أن تحتمل إحدى هذه الكوارث، وقد نشأت في مهد الترف، ودرجت في باحة النعيم، وعاشت في ظل ظليل من الغنى ورفاغة العيش؟ لقد كانت تستخشن الحرير، ويؤلمها الفراش الوثير، وتجرح خديها خطرات النسيم، فكيف هي الآن وفراشها الجندل،
نامعلوم صفحہ