سارت الأسرة في صمت حزين، وكمد دفين، وهي لا تدري: أي مكان تريد؟ ولا أي طريق تقصد؟ ولكنها كانت تريد أن تفارق المدينة، تريد أن تفر من ذلك السيل العربي الجارف الذي يوشك أن يبتلعها، تريد أن تحيد عن طريق ذلك الضرغام الذي سمعت زئيره عن بعد يصم آذان السهول والآكام.
وكان الصباح شديد البرد، وكانت الريح زعزعا. فكانوا كثلاث ريشات ظفرت بها الريح في يوم عاصف، فقذفتها هنا وهناك فلم تستطع ثباتا ولا دفعا. سارت الأسرة أياما حتى نال منها الأين، وهرأ
2
أطرافها البرد، فلجأت إلى سفح جبل يصد عنها صولة العواصف، وجلست مارايا القرفصاء وقد دفنت وجهها بين ركبتيها من البرد، وأخذت ترسل أنفاسا متلاحقة مضطربة، ورمت فوقها فلورندا طرفا من دثارها، وأخذت تبث في أذنها كلمات الحنان، وتحثها في رفق على الصبر والتجلد. أما جارسيا فكان فظا صخري الفؤاد، لم ينل منه هذا المشهد المفجع إلا السخرية والتهكم، فزجر زوجته في غلظة وعنف على ضعفها وانحلال قواها.
ولكن ابنته، وقد ضاق به ذرعها، التفتت إليه وقالت؛ إنها لا تستطيع المشي يا أبي. إن يديها قطعتان من جليد، وقد لمست رأسها فإذا هو يتقد من الحمى. ثم أرسلت دمعتين يائستين وصاحت: إن أمي مريضة يا أبي. انظر إلى عينيها، إنك لا تجد بهما بريقا. ثم احتضنتها إلى صدرها لتعيرها قليلا من دفء شبابها، ولكن مارايا كانت في غير حاجة إلى دفء، لأنها خرجت من دنيا العواصف والأنواء، وتركت شعاب أسبانيا الوعرة القاسية، إلى شعاب محجبة عن العيون!
صرخت فلورندا حينما رأت أمها جثة فارقتها الحياة، ونظر جارسيا في ذهول ووهل إلى امرأته وقد أحاطت بها رهبة الموت، ودارت حولها هالة من ذلك الجلال الذي لا يعرفه الأحياء إلا في لحظات الوداع. ومن العجب أن هذه اللحظات قلبت طبائع الرجل، أو أظهرت الجانب الخفي المكبوت من طبائعه على الأصح، فما كاد يستيقن موت زوجه حتى انكب عليها يقبلها وهو يبكي بكاء الأطفال، ويندب ندب الثكالى، ويناجيها في لوعة وحسرة بأرق ما يناجي به حبيب حبيبا. وكأنه كان يلمح ماضي قسوته وجفائه، وسابق تفريطه في حبها، فيزيده كل ذلك بكاء وألما وإفراطا في الحزن والأسى. وحينما عاد إليه بعض صوابه شق لها قبرا تحت شجرة تين، وعمد على غصنين فصنع منهما صليبا أقامه عند رأسها، ثم حمل متاعه، وأخذ بيد ابنته، فسارا مطرقين كأنهما لا يزالان يحسان رفيف أجنحة الموت. وقالت البنت في صوت خافت: إلى أين يا أبي؟ - لا أدري وحق العذراء يا فلورندا. - أرى أن نعود إلى مدينتنا، فإن العرب لن يكونوا أقسى مما نحن فيه من هول وعذاب. - نعود إلى مدينتنا؟ هذا لن يكون يا فتاة. ثم مد شفتيه في سخرية وألم وقال: ماذا فعلنا أو فعل بنا القدر؟ أخرجنا لنفقد أعز امرأة في هذا الوجود، ثم نعود أدراجنا كأننا أدينا واجبا مقدسا؟ لا يا فتاة. لن نعود إلى شنت ياقب بغير أمك. إن كل شيء فيها سيذكرني بها، وسيهمس في أذني بأني لم أكن لها زوجا صالحا، ولكنني كنت كلبا عقورا. خير لي أن أموت وأن تموت معي هذه الذكريات. - وأين نذهب يا أبي؟ - إلى قرطبة. - إلى قرطبة قصبة الإسلام، وعرين الضواري، ووكر النسور الكواسر، الذين فررنا من بطشهم، وخاطرنا بالحياة للنجاة من شرهم؟ لم لا نذهب إلى الشمال، ونلجأ إلى «ليون» أو «نافار» أو «قشتالة» حيث نجد في ممالك النصارى الأمن والسلامة، وحيث نعيش مع قوم ديننا دينهم، وبلادنا بلادهم؟ - نعيش بينهم شهرا أو شهرين، ثم تقع الواقعة، فنعود إلى الفرار واقتحام الأخطار، والتعرض لموت محقق! - كيف يا أبي؟ - إن هذا الخليفة العربي الذي يسمونه المنصور لن يستقر له قرار حتى يخضع جميع بلاد أسبانيا، وحتى يزحف سيله إلى الأرض الكبيرة، على أنه استولى على ليون، وأذل نافار، وإذا لم يملك قشتالة اليوم فسيملكها غدا. أتعرفين أن غزوته لشنت ياقب إنما هي الغزوة السادسة والأربعون. وأنها ستتلوها غزوات وغزوات. إن من الخير لنا أن نلجأ إلى قرطبة عاصمة الإسلام لنأمن شر الغزو إلى الأبد، ونعيش بين المسلمين أنفسهم ، لأنهم لا يؤذون ذميا ولا مستأمنا، وكل ما يطلبونه من مثلي جزية لا تزيد على اثني عشر درهما في العام. هلم إلى قرطبة يا بنيتي، فإن المثل الأسباني يقول: إن صديق الأسد لا يخاف وثبته.
انطلق جارسيا وابنته نحو قرطبة، وقد فرغ زادهما، فكانا إذا نزلا قرية استطعما أهلها، وكانت فلورندا تحسن الرقص والغناء، فكانت تنتقل مع أبيها من باب إلى باب ترقص وتغني، حتى ينالا من صدقات المحسنين ما يكفيهما، وما زالت هذه حالهما حتى بلغا قرطبة، فنزلا منها بالربض الجنوبي، حيث يقيم أكثر النصارى والأسبان المتسلمين، ولم يجد الرجل من وسيلة للرزق إلا أن يبيع الفاكهة متنقلا بها طيلة النهار وطرفا من الليل بين قرطبة وأزقتها، وأبت فلورندا إلا أن تعين أباها، فكانت تجمع كل يوم بعض دريهمات من الرقص والغناء، وكانت هذه الدريهمات تزيد في كل يوم كلما زاد الإعجاب بها والإقبال عليها.
وبينما كانت في أحد الأيام تبرز فنونها في سوق البزازين،
3
وقد التف حولها حشد حاشد من السابلة الذين أخذوا برنات صنوجها، إذ مر «بترو» الذي ما كاد يسمع الرنين والإيقاع، حتى هزه الطرب، فدنا منها فإذا حسن فتان، وجسم ريان، وفن في الرقص والغناء لو ثقف لفتن الناس وهز الأندلس.
نامعلوم صفحہ