حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
اصناف
تميز عصر النهضة بنظرة جديدة للإنسان والكون؛ فقد كان في مفهومه العام «عصر الإنسانية، تميزه روح جديدة تفيض بالحرية وشعور جديد ومهيب بالفرد، وواقعية جديدة في تصور الطبيعة»
35
أنه أيضا عصر الاكتشافات الكبرى، وعصر الإصلاح الديني، ونمو الدول القومية، وبداية انطلاق الاقتصاد الرأسمالي والتجاري مصحوبا بنهضة فنية شملت كل ميادين الفنون والآداب. كما كانت النهضة فترة توهج فكري شمل الروح والمعرفة والفلسفة والسياسة والاجتماع، بحيث يمكن أن نقول إنها - أي النهضة - وضعت أوروبا على عتبة العصر الحديث.
وصف المؤرخ الفرنسي المشهور ميشليه النهضة بعبارة شهيرة قال فيها «إنها اكتشاف للعالم والإنسان»، أي أنها العصر الذي فتح «كتاب الطبيعة» و«كتاب التاريخ» معا. فقد انفتحت الطبيعة أمام الإنسان ليمعن النظر فيها، وساد العصر «الشعور بالاتساع واللامحدودية الذي يستولي على البشر.»
36
أي الشعور بلا محدودية الأرض الذي تجلى في الكشوف الجغرافية ورحلات كولمبوس وماجلان، ورحلات الدوران الأولى حول الكرة الأرضية. وأيضا الشعور بلا محدودية السماء، واكتشاف أن الأرض ليست هي مركز الكون، وأن هناك العديد من الأكوان الأخرى، الأمر الذي أدى إلى التخلي عن وجهة نظر مركزية الأرض لصالح مركزية الشمس. لقد كان الشعور باللامحدودية هو التعبير الحقيقي عن أهم الظواهر المميزة لعصر النهضة، وهي روح الجرأة والمخاطرة والمغامرة إلى ما وراء كل الحدود، حدود الأرض والسماء والعقل على السواء. الأمر الذي شجع العقل الأوروبي على طرح أسئلة كانت محرمة عليه، وأن يطوف في بلاد وشعوب نائية ويجوب عالما لم يجبه أحد من قبل. ويطأ أراضي وميادين جديدة بعقلية الرائد والفاتح والمغامر الذي يستمتع بمتعة الكشف ولذة المغامرة.
وكما انفتح «كتاب الطبيعة» انفتح أيضا «كتاب التاريخ»، واستعاد الإنسان «كرامته الإغريقية»، ولم يعد العالم متمركزا حول الشمس فقط، بل حول الإنسان أيضا. فالنهضة التي كانت في المقام الأول من أجل الإنسان لم يصنعها سوى الإنسان نفسه، فكان «الإنسان الصانع» الذي ابتدع فنونا عديدة، ووعت المخيلة دورها في مسار التاريخ، فانطلق الفنان باعتباره شخصية فردية خلاقة متحررا من روابط التقاليد إلى حد كبير، وكان اكتشاف المنظور الذي فتح الفن على عالم لا نهائي. لقد كانت الإنسانية الواعية بذاتها هي مفتاح عصر النهضة، فتم تفسير كل شيء بمصطلحات إنسانية معبرة عن الإنسان الذي يعيش على هذه الأرض، الإنسان الذي أكد فرديته، وامتلك ذاته، واتسعت معرفته وتطورت ملكاته النقدية الواعية. وكشفت النهضة عن ميلاد جديد لإنسان جديد، ومجتمع يحمل قيما جديدة، كما كانت عصر رفع لواء الفاعلية كشعار لإنسان حقق ذاته من خلال العمل، فكان الإنسان وإبداعاته الخلاقة هما الشحنة الهائلة التي دفعت النهضة إلى الأمام كحركة تاريخية في اتجاه المستقبل.
لقد كانت القضية الأساسية في عصر النهضة، هي خلق رابطة جديدة بين الإنسان والطبيعة، رابطة يتم فيها النظر إلى الكون نظرة جديدة غير سكونية، فكانت الطبيعة الفاعلة عند جوردانو برونو، أي الطبيعة المبدعة التي تشكل العالم، والتي بفضلها يشكل العالم ذاته بذاته، فكل من الإنسان والطبيعة يسيران جنبا إلى جنب، وكلاهما لم يكتمل بعد، بل ما زالت أمامهما إمكانية عيانية لعقد تحالف جديد، وكلاهما في صيرورة متجددة على حد تعبير باراسيلزوس
37
أن العالم يسقط في العدم إذا لم «يخلق ثانية» في كل لحظة. وأن الإنسان المسلح بخيال خلاق وذكاء مبدع مكلف بإنضاج إنسان أفضل وعالم أفضل. فالطبيعة لا تنتج شيئا كاملا منذ البداية، ولكن على الإنسان أن ينجز ويتمم كل شيء.
نامعلوم صفحہ