حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
اصناف
ومن بين الفلاسفة الذين زعموا أنهم جاءوا بتصور جديد لثقافة ما بعد الفلسفة نجد المفكر الأمريكي ريتشارد رورتي
Richard Rorty (1931م-...) وهو فيلسوف يهتم بمشكلات العقل وماهية الإنسان، وناقد لمبادئ نظرية المعرفة التقليدية. وقد حصر على درجته العلمية الأولى من جامعة شيكاغو، وعلى الدكتوراه من جامعة ييل، وقام بالتدريس في جامعة برنستون بين عامي 1961م، 1982م، وهو نفس العام الذي انتقل فيه إلى جامعة فرجينيا ليشغل منصب أستاذ للعلوم الإنسانية، ثم انتقل إلى جامعة كاليفورنيا التي ما يزال يعمل بها . بدأ رورتي حياته الفكرية فيلسوفا تحليليا عاديا إلى أن نشر في عام 1979م كتابه «الفلسفة ومرآة الطبيعة»
الذي رفض فيه بشدة فكرة إمكان الحكم على معتقداتنا من وجهة نظر موضوعية ومتعالية، فأثار رأيه هذا اهتماما واسعا في الدوائر الفلسفية الأمريكية، وأطلق عليه بعض المفكرين لقب «نبي وشاعر البراجماتية الجديدة».
والبراجماتية الجديدة حركة فلسفية حديثة «تعتنق بشكل جذري أشكال التداخل والتفاعل بين السياقات الاجتماعية والعملية المختلفة، وتنفي إمكان قيام تصور كلي شامل عن الحقيقة أو الواقع. وقد ظهرت البراجماتية الجديدة كرد فعل نقدي للفلسفة التقليدية والفلسفة التحليلية. ولما كانت هذه الفلسفة تعتمد أساسا على آراء جون ديوي، وفيتجنشتين وكواين وسيلرز، فإن ريتشارد رورتي في كتابه «الفلسفة ومرآة الطبيعة» قد بدأ طريق العودة إلى الفلسفة البراجماتية.»
1
إن الفكرة المحورية عند رورتي في خطوطها العريضة هي تكرار للاعتراض الذي وجهه الفلاسفة المثاليون في القرن التاسع عشر إلى نظرية الواقعيين عن الحقيقة، أي نظرية التطابق (وهي النظرية التي تقول بأن الحقيقة هي تطابق ما في العقل مع ما في الواقع والعكس). وليس هناك سبيل - في رأي رورتي - لمعرفة الوقائع التي يفترض أن يتسق معها صدق معتقداتنا إلا من خلال معتقدات أخرى. وقد اعتمد في رفضه لوجود أي أساس وطيد للمعرفة على التراث البراجماتي، ثم على بعض الاتجاهات الحديثة التي سارت في الاتجاه نفسه، كما ألح على نقده لفكرة وجود أسس ثابتة يمكن أن تصدر فيها نظرية المعرفة أحكاما على المعتقدات بوجه عام، بل وأنكر أيضا أن يكون أي معتقد أكثر أهمية من أي معتقد آخر. ويخلص رورتي إلى نتيجة - تشكل المضمون العام لتفكيره - مفادها أن الفلسفة عاجزة عن أن تؤسس أو تقيم شيئا. ولذلك شرع في هدم التصور الذي تواضع الفلاسفة - طوال تاريخ الفلسفة - على أن يفهموا به النشاط الفلسفي ودور الفلسفة، واعتمد في هدمه للتصورات التقليدية - التي درج الفلاسفة على الأخذ بها عن تطور الفلسفة وفاعليتها - على فلاسفة ثلاثة هم: هيدجر وفيتجنشتين وديوي، واستلهم أفكارهم وكأنهم مجمع الخالدين الذين عملوا على تقويض المفهوم التقليدي الذي تبناه الفلاسفة التقليديون في نشاطهم الفلسفي.
هل كان نقد رورتي للفلسفة التأسيسية بمثابة دعوة للتخلي عن الفلسفة، أم دعوة - بالإضافة إلى دعوات أخرى سابقة - لتحويل دور الفلسفة في الفكر المعاصر؟ وإذا كانت الإجابة عن هذا السؤال بنعم، فما هو تصوره لثقافة ما بعد الفلسفة؟ سوف نحاول الإجابة على هذه التساؤلات من خلال محورين أساسيين: الأول هو نقد رورتي للفلسفة التأسيسية. ويتضمن هذا المحور: (1) تقويض المفهوم التقليدي للفلسفة. (2) نقد النزعة التحليلية. ويدور المحور الثاني حول ثقافة ما بعد الفلسفة، ويتناول: (1) تصور رورتي للدور الجديد للفلسفة في الفكر المعاصر، وذلك بأن يجعل المنظور التاريخي المتغير للمشكلات الفلسفية بديلا عن المنظور الأبدي لها. (2) دور اللغة في الفلسفة المعاصرة. (3) استبدال معرفة إبداع الذات بالمعرفة التقليدية. (1) نقد رورتي للفلسفة التأسيسية (1-1) تقويض المفهوم التقليدي للفلسفة
على الرغم من أن رورتي بدأ حياته الفلسفية كفيلسوف تحليلي، إلا أنه تحول منذ أن نشر كتابه «الفلسفة ومرآة الطبيعة» الذي يعتبره بعض المفكرين أهم وأجرأ كتاب نشره فيلسوف أمريكي في العقود الأخيرة: «لم نجد منذ وليم جيمس وجون ديوي مثل هذا النقد المدمر للفلسفة المهنية أو الحرفية
professional »،
2
نامعلوم صفحہ