حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
اصناف
هذا الإمكان موجود في الأبعاد الثلاثة السابقة، وليست مزاعم الصدق أو مطالبة مقصورة فحسب على صدق القضايا أو على فاعلية الوسائل التي تمكن من التوصل إلى نتائج يمكن نقدها، والدفاع عنها بأسباب عقلية ، بل يضاف إلى هذا أيضا المطلب القائل بأنه فعل صحيح أو ملائم، وذلك في علاقته بسياق معياري معين، أو أن مثل هذا السياق يستحق أن يعترف به كسياق مشروع. كل هذا يمكن أن يناقش بالحجج العقلية، بل يمكن أيضا أن يناقش المطلب الذي يلح على أن أية عبارة من العبارات هي تعبير صادق وأصيل عن تجارب الفرد الذاتية من عكس ذلك. والشاهد أنه في كل هذه الأبعاد يمكنه الوصول إلى اتفاق حول المطالب المختلف عليها عن طريق الحجة والاستبصار أو البصيرة، وبغير الرجوع إلى القوة والبطش، أي بالرجوع إلى الأسباب والحجج العقلية وحدها. وفي كل بعد من هذه الأبعاد الثلاثة يوجد ثمة وسط تأملي يتيح معالجة أساليب الحجاج العقلي أو النقد التي تساعدنا على إثبات صحة المزاعم المختلف عليها، ومحاولة الدفاع عنها، أو حتى نقدها، ولأن مزاعم الصدق يمكن أن تنتقد، فهناك إمكانية لتصحيح الأخطاء والتعلم منها. ومن الطبيعي أن تخضع هذه المزاعم للاختبار والنقد والمراجعة. وهناك طرق عديدة لمناقشة وتنفيذ هذه المزاعم: «إن المعقولية التي تميز الممارسة التواصلية في الحياة اليومية إنما تشير أو تحيل إلى ممارسة الحجاج العقلي، وكأنه هو محكمة الاستئناف التي تمكن من استمرار الفعل التواصلي بوسائل أخرى عندما يصل الاختلاف في الآراء إلى حد لا يمكن تجاوزه عن طريق الأساليب الروتينية، بل لا يمكن أيضا فضه (أي الاختلاف) عن طريق الاستخدام المباشر أو الاستراتيجي للقوة.»
44
هكذا تعد الحياة اليومية أحد الأبعاد المهمة في فلسفة هابرماس التواصلية، وترتبط نظرية الفعل التواصل بالعالم المعيش ارتباطا أساسيا باعتباره - أي العالم المعيش - الخلفية الكامنة وراء كل مشارك في التواصل، وباعتباره أيضا السياق الذي يمكن أن يساعد على حل مشكلات الفهم، فأعضاء أي تجمع اجتماعي يشاركون في العالم المعيش الخاص بهم. فما هي إذن مكونات هذا العالم؟ (5) عقلنة العالم المعيش
يحاول هابرماس أن يشرح مفهوم العالم المعيش في الجزء الثاني من مؤلفه عن نظرية الفعل التواصل مستعينا في ذلك بما سبق أن شرحه في الجزء الأول من المؤلف نفسه عن النظرية التواصلية وعن أفعال الكلام؛ وذلك لأن مفهوم العالم المعيش بمكوناته المختلفة يمثل السياق الذي يشكل عملية التفاهم بين الذوات، كما أن أية نظرية عن المجتمع - وهو الهدف النهائي عند هابرماس - لا يمكن لها أن تقتصر على نظرية الفعل التواصلي دون أن تستمد شرعيتها من العالم المعيش. ويبين هابرماس كيف «أن هذا العالم المعيش - بوصفه الأفق الذي تتحرك فيه الأفعال التواصلية بصفة مستمرة - عرضة للتغير من خلال تحول بنية المجتمع ككل.»
45
إن فكرة العالم المعيش ليست فكرة جديدة ابتدعها هابرماس، لقد سبقه هوسرل في تحليل العالم المعيش تحليلا ظاهراتيا، كما أن فيتجنشتين قد تناوله من خلال تحليله لأشكال الحياة، إلا أنهما في رأي هابرماس لم يكن لهما هدف منهجي: «إذا طرحنا جانبا المشاكل الفلسفية للوعي التي تعامل بها هوسرل مع مشكلة العالم المعيش، فبإمكاننا أن نفكر في العالم المعيش كما يتمثل في مجموعة من النماذج التفسيرية نقلت عن طريق الثقافة الموروثة، ونظمت من خلال اللغة. عندئذ لا نحتاج إلى فكرة السياق المرجعي الذي يربط بين عناصر الموقف الواحد بعضها ببعض، كما يربط الموقف نفسه بالعالم المعيش، ولا نحتاج أيضا أن نفسر هذا كله في إطار فلسفة الظاهريات ولا في إطار سيكولوجية الإدراك.»
46
وترتب على ما سبق أن اتجه هابرماس إلى البحث في بناءات العالم المعيش بحثا تداوليا شكليا، بحيث يبرز البناءات التي تظل ثابتة على الرغم من تغير صور العالم المعيش وأشكال الحياة.
وإذا كان هابرماس قد ركز جهده في المجلد الأول من كتابه «نظرية الفعل التواصلي» على إعادة صياغة عقلانية ماكس فيبر من أجل تأسيس عقلانية جديدة، فإنه قد ركز جهده في المجلد الثاني من مؤلفه على إعادة عقلنة العالم المعيش. بمعنى آخر أنه - أي هابرماس - قدم فكرة العالم المعيش باعتبارها مكملة لمفهوم العقل التواصلي؛ لأنها مرتبطة أيضا بمفهوم المجتمع، بل وتشكل سياق الفعل الاجتماعي. وقد تناول هابرماس في المجلد الثاني أربع نقاط أساسية يقوم عليها هذا الجزء، وحاول شرحها في البداية: (1)
أن يوضح أن العالم المعيش مرتبط بالعوالم الثلاثة «الثقافة والمجتمع والشخص»، وهي التي تقيم عليها الذوات - التي تهدف إلى التفاهم المتبادل - تحديداتها المشتركة للمواقف المختلفة. (2)
نامعلوم صفحہ