حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
اصناف
30
وتدخل نظرية الفعل التواصلي ضمن إطار مشروع هابرماس الأكبر، وهو تأسيس نظرية نقدية للمجتمع الحديث، ويمكن إجمال مشروعه في مراحل ثلاث: يرى في المرحلة الأولى ضرورة التحرر من «فلسفة الوعي»، وهي الفلسفة التي ترى أن العلاقة بين اللغة والفعل كالعلاقة بين الذات والموضوع، بينما يؤكد هابرماس أن العلاقة في الفعل التواصلي تكون بين ذات وذات. ويرى في المرحلة الثانية ضرورة أن يتخذ الفعل صورتين: الفعل الاستراتيجي، ويتضمن الفعل العقلاني الغائي، وفعل التواصل الذي يرمي للوصول إلى الفهم. ويرى في المرحلة الثالثة ضرورة إعطاء فعل التواصل الأولوية مما يترتب عليه أمور ثلاثة؛ أولا: أن العقلانية - بهذا المعنى - تستلزم نسقا اجتماعيا ديمقراطيا يشمل الجميع، ولا يستبعد أحدا، وهدفه ليس الهيمنة، بل الوصول إلى تفاهم. ثانيا: ثمة نظام أخلاقي - يحاول هابرماس الكشف عنه - يتوجه إلى التوصل لمعايير عبر نقاش عقلاني حر، تبحث فيه نتائج كل معيار من تلك المعايير الأخلاقية، أي نظام يلقى القبول والرضا عن طريق الإقناع العقلي، وليس عن طريق القوة أو القسر. ثالثا: فكرة وجود مجتمع ديمقراطي بحق، يكون فيه للجميع فرص متكافئة لاستخدام أدوات العقل، كالمساهمة في الحوار، ويكون لكل فرد فيه صوت مسموع يحسب حسابه عند اتخاذ القرار النهائي.
31
ويمثل مفهوم الفعل التواصلي - كما حدده هابرماس نفسه في تصديره للكتاب الذي يحمل نفس العنوان - مدخلا لثلاثة موضوعات متشابكة؛ أولا: مفهوم العقلانية التواصلية الذي هو ذو طابع شكي، وإن كان في نفس الوقت يقاوم الاقتصار على معالجة العقل من الناحية المعرفية معالجة أداتية. ثانيا: مفهوم ثنائي المستوى عن المجتمع يربط بن العالم المعيش ونماذج المنظومات (أو المؤسسات) في شكل ليس إنشائيا فحسب. ثالثا وأخيرا: نظرية عن الحداثة تفسر نمط الأمراض الاجتماعية المتزايدة في عصرنا الحديث.
32
والمقصود - إذن - بنظرية الفعل التواصلي هو وضع سياق الحياة الاجتماعية التي نجمت عن مفارقات الحداثة في إطار تصوري عقلي أو مفهومي، ومعنى هذا بعبارة أخرى أن هابرماس أراد إحكام البناء التصوري العقلي للبناءات الاجتماعية التي يتم فيها التواصل.
يعرض هابرماس أربعة نماذج للفعل استقاها من نظريات العلوم الاجتماعية: (1)
النموذج الغائي للفعل، ويطلق عليه اسم النموذج الاستراتيجي، وغالبا ما يفسر تفسيرا نفعيا؛ فالفاعل يفترض أنه يختار ويحسب الوسائل والغايات من وجهة نظر تحقيق أكبر قدر من المنفعة. وهذا النموذج هو الذي يكمن وراء كل مناهج البحث النظرية التي تحتاج إلى اتخاذ قرار في الاقتصاد والاجتماع وعلم النفس الاجتماعي. (2)
مفهوم نموذج الفعل الذي توجهه وتنظمه المعايير، وهذا النموذج لا يشير إلى سلوك أفراد منعزلين يلتقون مصادفة بأفراد آخرين في محيطهم، وإنما يشير إلى سلوك أعضاء في جماعة اجتماعية يوجهون أفعالهم نحو قيم مشتركة. فالفاعل الفرد يعمل وفق معيار معين (أو يخرق هذا المعيار) عندما تتوافر في موقف معين شروط معينة يمكن أن ينطبق فيها ذلك المعيار. والمعايير تعبر عن اتفاق يتم التوصل إليه في داخل جماعة اجتماعية معينة. وجميع أعضاء الجماعة الذين يعتقدون بصدق معيار معين ينتظر منهم أن يتوقعوا من كل واحد منهم أن يقوم بتنفيذ الأفعال المطلوبة أو الامتناع عنها عندما تحكم بذلك مواقف معينة. والمفهوم الأساسي للموافقة على المعيار معناه الوفاء بتوقع سلوك معين. وهذا السلوك الأخير لا يحمل المعنى المعرفي بتوقع حدث متنبأ به، وإنما يحمل المعنى المعياري الكامن في توقع الأعضاء لسلوك معين. إن هذا النموذج المعياري للفعل يكمن وراء نظرية الدور المعروفة في علم الاجتماع. (3)
مفهوم الفعل الدرامي لا يحيل في المقام الأول إلى فاعل منفرد أو عضو في جماعة اجتماعية، وإنما يحيل إلى المساهمين في فعل مشترك، بحيث يكونون جمهورا يعرضون أنفسهم أمامه. والفاعل هنا يثير في جمهوره صورة معينة أو إحساسا معينا عنه هو نفسه. وذلك بالكشف عن ذاتيته كشفا متعمدا أو غير متعمد (بشكل مباشر أو غير مباشر). ففي الفعل الدرامي يستغل المساهمون هذا، ويحركون أفعالهم المشتركة بإتاحة الفرصة للتعرف على عوالمهم الذاتية. وهكذا فإن مفهوم تقديم الذات لا يعني السلوك التعبيري التلقائي، بل التعبير المنظم عن التجارب الشخصية بالنظر إلى جمهور يراقب هذا التعبير. إن النموذج الدرامي للفعل يستخدم قبل كل شيء في الوصف الفينومينولوجي للأفعال المشتركة «بين الذوات»، ولكنه لم يتطور حتى الآن، بحيث يصبح منهجا نظريا عاما. (4)
نامعلوم صفحہ