حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
اصناف
91
ثم تطرح إجابة على هذه التساؤلات تنطوي على صيغ إنكارية. إن هذه الانتقادات والاعتراضات قد تكون مصيبة في بعض جوانبها، ولكنها أيضا مخطئة في جوانبها الأخرى. فالتراث الفكري الإنساني ليس له وطن محدد أو هو بالأحرى وطن لكل إنسان يفكر، كما أن الإبداع البشري بكل تجلياته الفكرية والعلمية والمنهجية الفكرية هو ملك للجميع، وماذا يمنع المشتغلين بالثقافة العربية من التسلح بأدوات ومناهج العصر ما داموا يطوعونها لمتطلبات مجتمعاتهم؟ وما هو المبرر أن تنفصل الثقافة العربية عن ثقافة العصر بحجة أنها ثقافة وافدة أو مناهج عربية؟ إن هذه الأدوات والمناهج تلقي المزيد من الضوء على تراثنا لاكتشاف الجوانب الحية منه، والتي تستحق أن تتطور لتواكب الحاضر المتغير ، ولكي تتخلص أيضا من الجوانب الميتة التي تعوق تطورنا، فالبديل هو الاعتكاف على ذواتنا وتراثنا دون الالتفات إلى أهمية الوعي بمعرفة عصرنا وثقافته المتطورة. ثم لماذا ننقل آخر مناهج ومدارس ومنجزات العلم والتكنولوجيا ولا ننقل الأفكار والمناهج الفكرية؟
حقيقة الأمر أن السؤال عن صحة ومشروعية التلقي أو عن نجاحها أو إخفاقها يجب أن يسبقه البحث عن الأسباب الحقيقية التي عوقت التفكير الفلسفي العربي، وعرقلت أيضا كل المشروعات الطموحة لتجديد الفكر العربي المعاصر. كما يجب أن يسبقه أيضا السؤال الأكثر أهمية وهو: لماذا اقتصرت الساحة الفلسفية العربية على تلقي تيارات ومناهج غربية ولم تبدع بذاتها فلسفاتها الخاصة النابعة من عمق مشكلاتها، فاقتصرت على التأثر دون التأثير، وارتضت أن تكون مفعولا وليست فاعلا؟ وإلى متى سنظل منفعلين ولسنا فاعلين؟ الإجابة على هذه التساؤلات تحتاج إلى دراسة عميقة لملابسات الظروف العربية التي تحول دون قيام فلسفة عربية خاصة بها، وليس هذا البحث مجالها على أية حال، ولكن لعل أهم الأسباب جميعا هو أن الفلسفة لا تزدهر إلا في مجتمع بلغ درجة معينة من التقدم الثقافي، وتوفرت له بيئة ملائمة ترعى الفكر الفلسفي، وتوفر مناخ الحرية الذي يسمح بالتفلسف. فأين نحن من كل هذا، وما زلنا نحيا في ظل تيار سلفي متزمت يضع ثوابت فكرية يحذر الاقتراب منها، ونعيش في ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية لا تعوق التفكير الفلسفي وحده، بل والبحث العلمي أيضا، ويكفي أن نقول صراحة إن السلطة السياسية في معظم بلدان العالم العربي لا تسمح بممارسة الديمقراطية ممارسة حقيقية، ولا تعرف منها غير قشورها وإطارها الخارجي دون مضمونها الحي.
إن المشكلة الحقيقية التي تواجه المثقف أو المفكر العربي - ولا أقول الفيلسوف فما زلنا بعيدين عن أن يكون لدينا فلاسفة بالمعنى الحقيقي - هي كيف يصبح المجتمع المدني مجتمعا ديمقراطيا قائما على الحرية. ويبقى التحدي الحقيقي للفكر العربي في لحظتنا الراهنة هو أن يمارس النقد بمناهجه ومدارسه المختلفة، وأن يفكك أغلال التقاليد التي تكبله، وأن يتحرر من الأفكار الموروثة التي لا تؤمن بحق الاختلاف والمغايرة، بل تخشى المخاطرة بتغيير القيم الثقافية البالية والجامدة، وتتهم المشتغلين بالفلسفة بالتجريد والمروق والتجديف. لكل هذه الأسباب لم تسهم المحاولات التي تحدثنا عنها إسهاما حقيقيا وملموسا في إثراء فكر فلسفي عربي، ولم تؤسس الروح الفلسفية الأصلية أو جوهر الروح الفلسفي وهو النقد الذاتي على مستوى الفرد والمجتمع، هذا النقد الذي قام عليه الفكر الغربي وشكل أساس وعيه وتطوره. ولذلك فإنه بصرف النظر عن التأييد أو الاعتراض على مشروعية التلقي من حضارة غربية، فالشيء الجدير بالتقدير والذي يجب وضعه موضع الاعتبار هو الجهد المشكور الذي بذله من أخذوا على عاتقهم تأصيل وتوظيف تلك التيارات الغربية في واقع الثقافة العربية من أجل تنمية الوعي العربي وتحرير العقل والفكر من ركام اللامعقول الذي يثقل كاهل الثقافة العربية.
يكفي المحاولات التي تحدثنا عنها أنها تعد بمثابة المراحل التمهيدية للنهضة الحقيقية (أعني بذلك الترجمات الواسعة والشرح والتعليق والتحقيق ... إلخ)، وهي مراحل ضرورية وسابقة لمرحلة الإبداع الفكري الحقيقي. فالتاريخ يشهد بأن كل الأمم والشعوب التي سبقتنا على طريق النهضة مرت بهذه المراحل الأساسية. وإذا كنا نأمل في ظهور تيارات فلسفية عربية تنبع من واقع مجتمعاتنا ومشكلاتنا التي لا يتعرض لها الغرب، أو التي تجاوزها خلال مسيرته منذ عصر النهضة حتى الآن، فإن هذا لا يمنعنا من الاهتداء بمناهج وأدوات البحث المعروفة لدى الآخرين دون خشية على ثقافتنا أو هويتنا من تلقي تيارات غربية أو غيرها. فنحن أيضا لسنا قادمين من فراغ، ولكننا منحدرون من تراث ثقافي طويل، كما أن الهوية العربية بتاريخها الحضاري ليست بهذه الهشاشة، حتى نخشى عليها من رياح التغيير، فمن حقنا أن ننهل من الإبداع البشري أيا كان موطنه، ومن حقنا أن نتعرف على كل التيارات الفكرية، ثم من حقنا أيضا بعد ذلك أن نقبلها أو نرفضها وفقا لمعيارين؛ الأول: براجماتي بمعنى أن نأخذ منها ما يثبت مع الزمن نفعه لنا ونجاحه في زيادة وعينا بأنفسنا وحاضرنا وتراثنا، والآخر معرفة أصوات العصر لنكون معاصرين، حتى لا ينظر إلينا على أننا بقايا متخلفة من عصور ماضية، نجتر الماضي ونعيش فيه مكتفين بهذا الاجترار. وإذا كنا نتطلع إلى أن تنبع الفلسفة أو الفلسفات التي نأمل في تبلورها في مجتمعنا الثقافي من أزماتنا العربية، فإننا نأمل أيضا في استعادة الروح النقدية الحرة في الفكر العربي دون أن يمنعنا هذا بطبيعة الحال من تلقي فلسفات غربية وتوظيف مناهجها النقدية على مشاكل مجتمعاتنا، على أن نكون مشاركين في ثقافة العصر لا تابعين لها. فبدون النقد المرتبط بواقعنا، وبدون الحرية والديمقراطية التي لا غنى عنها لازدهار الروح النقدية، سنظل تابعين متأثرين مجترين لما ينتجه الغرب، وسنقتصر على التفاخر بما نعلم فحسب، ولن نكون أنفسنا أبدا، لا مبتكرين ولا مبدعين.
تطور العقل النقدي
من كانط إلى هابرماس
نشأ التفكير الفلسفي من دهشة الإنسان وحيرته أمام الكون وظواهره المتغيرة من حوله. وقام هذا التفكير منذ بداياته على افتراض أصل ثابت وراء هذه الظواهر الكونية المتغيرة. واختلف هذا الأصل الثابت من فيلسوف إلى آخر، ومن عصر إلى عصر. هكذا كان الحال منذ أفلاطون الذي تبلورت فلسفته في نظرية المثل القائمة على وجود عالم ثابت هو عالم المعقولات الذي يتصف بالثبات والضرورة والكلية، وانعكس هذا التصور - أي تصور الأصل الثابت وراء الظواهر المحسوسة المتغيرة - على الإنسان نفسه، مما أدى إلى القول بأن في الطبيعة البشرية أيضا جانبا ثابتا أبديا لا يتغير وهو العقل، فكان تصور عقل إنساني عام وكلي ليس للبيئة الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أي أثر عليه؛ فالعقل هو الطبيعة الثابتة الوحيدة وسط الظواهر التي تموج بالمتغيرات.
هكذا نجد أنفسنا منذ بداية تاريخ الفلسفة أمام فكر يفترض جوهرا ثابتا للأشياء، بحيث إن كل «ما يطرأ عليها من تغيرات ظاهرة، فهي أعراض لذلك الجوهر ... أي إن الخلفية الثقافية والفكرية كانت دائما وعلى امتداد التاريخ تفترض للأشياء طبائع ثابتة، تغمرها موجات الظواهر المتغيرة، ثم تنحسر لتجيء سواها، فإذا استطعنا أن نعرف هذه الحقائق الثابتة بما يحددها ويعين قوانينها كنا بذلك قد أمسكنا بناصية الطبيعة كلها.»
1
نامعلوم صفحہ