حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
اصناف
وربما كان بيرس ووليم جيمس هما أول من «عرض بوضوح الاتجاه المميز للقرن العشرين في النظر بعين الاعتبار للمعنى، ووضعه في قلب الفلسفة، ففي اعتقادهما أن الفكرة الموجودة في العقل لها وظيفة تكيفية تتجلى في الفلسفة وفي نظرية المعنى»،
23
وهذه هي إحدى آثار نظرية دارون التطورية. ولوليم جيمس إسهاماته في ظهور البراجماتية على الساحة الفلسفية، على الرغم من أنه ليس مؤسس هذه النزعة (مثل بيرس)، ولا هو الذي قدمها بشكل محدد (مثل جون ديوي)، ولكن قوة شخصيته ونشاطه لعبا دورا حاسما في الأثر الذي طبعته البراجماتية على معاصريه. ومحاضراته عن البراجماتية يؤرخ بها لبداية هذا التيار الفلسفي كحركة واضحة المعالم، خاصة في بحثه عن مفهوم الصدق، فبعد أن اختلف الفلاسفة طويلا حول طبيعة الصدق، جاء جيمس ليؤكد أن الفكرة الصادقة هي التي تتلاءم مع غيرها من الأفكار التي تثبت صحتها عمليا. وتصبح الفكرة حقيقية عندما تثبت التجربة أنها صالحة ومفيدة.
ثم يأتي جون ديوي (1859-1952م) أحد الفلاسفة الثلاثة الذين طوروا البراجماتية بما له من وعي عميق بالبعد الاجتماعي للفكر الفلسفي. فقد أدرك أكثر من أسلافه ليس فحسب قيمة التفاعل بين الفلسفة والأنشطة الثقافية الكبرى، بل أيضا قيمة الفلسفة ذاتها ومواجهتها المستمرة مع السياسة والتعليم. مما جعل لفلسفته تأثيرا عظيما على الحياة الأمريكية، فقد «ذاعت شهرة جون ديوي على الأخص باعتباره مفكرا تربويا يروم إصلاح مناهج التربية على أساس آراء اجتماعية متشددة في شأن الطابع الاجتماعي للتربية. وقد كانت فلسفته لمدة طويلة أقوى قوة عقلية في تلك البلاد التي تعبد التكنولوجيا، ولم تعرف خبرة التقدم العلمي على النحو الذي عرفته أوروبا.»
24
لقد شارك جون ديوي زميليه بيرس وجيمس في المبدأ العام للبراجماتية، وهو أن الفكرة خطة عمل ، وأنها - أي الفكرة - لن تكتسب أية قيمة إلا حين تثبت أنها قابلة للعمل، وقادرة على تحقيق نجاح تلك الخطة، ولكن لفلسفة ديوي مفتاح آخر مختلف وهو مفهومه عن الخبرة وتأثره بالنزعة السلوكية، والخبرة عنده هي خبرة بالطبيعة؛ لأنه لا توجد - في رأيه - معرفة حقيقية غير التي يأتي بها منهج العلوم الطبيعية؛ ولذلك فهو يرفض كل الأفكار التي تتعالى على الطبيعة، ويتجه مباشرة إلى الخبرة.
ولعل أهم إسهام قدمه ديوي في تطور البراجماتية هو نظريته في التربية ورفعه شعار التعليم بالممارسة؛ فالتربية الواعية هي إعادة بناء مستمر للخبرة، وأن الأفكار لا تكون أفكارا حقيقية إلا إذا كانت أدوات أو ذرائع نستعين بها في حل المشكلات التي تواجه الفرد والمجتمع على حد سواء. ولا غرابة في أن تنشأ الفلسفة البراجماتية وتجد صدى لها - بل وتحقق نجاحا باهرا أيضا - في مجتمع يحكمه منطق القوة والنجاح كالمجتمع الأمريكي، ولكنه ليس بالضرورة هو أفضل المجتمعات. وربما لهذا السبب أيضا لم تجد البراجماتية رد فعل إيجابي في المجتمعات ذات القيم المثالية العريقة؛ لأن ربط الأفكار الحقيقية والصادقة بآثارها العملية سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة استدعى استبعاد كل القضايا الأخلاقية وأحكام القيمة، بل وبعض قضايا العلم أيضا من دائرة الحق والصدق. كما يحصر الفكر الفلسفي في الجانب العملي الذي يحقق منفعة مباشرة، ويزعم بغير حق أن الحقيقة مساوية للنجاح والتأثير العملي. والأبعد من هذا أن البراجماتية بهذا المفهوم تهدم الهدف الأسمى للفلسفة، وهو البحث عن الحقيقة ذاتها، أي البحث المنزه والمجرد من كل غاية أو هدف أو منفعة عملية، وربما كان هذا هو الجانب السلبي من المنهج البراجماتي، لكن هناك بغير شك جانبا إيجابيا يتمثل في نزعتها النقدية للمطلقات المثالية والميتافيزيقية، كما تتمثل أيضا في ترجمتها للأفكار إلى فعل وسلوك عملي، وتوجهها بوجه خاص نحو آفاق المستقبل. (3-3) الفلسفة التحليلية
أحدثت الفلسفة التحليلية ثورة في تاريخ الفكر الفلسفي - كما يقول آير - بانتقاله على أيدي التحليليين من البحث في مجال الموضوعات والأشياء إلى مجال آخر يبحث في الألفاظ والعبارات التي يستخدمها العلماء والفلاسفة. ولم تكن الفلسفة التحليلية مذهبا، بل هي منهج في البحث اهتم اهتماما شديدا بالتحليل اللغوي بهدف إضفاء الوضوح والدقة على لغة الفلسفة، والكشف عن حقيقة الكثير من مشكلاتها، وجورج مور (1873-1958م) هو رائد النزعة التحليلية في الفلسفة المعاصرة، وهو يمثل مع رسل وفيتجنشتين المدرسة التحليلية التي يطلق عليها اسم الواقعية الجديدة. والتحليل عند مور ينصب على التصورات أو الأفكار والمفاهيم، وليس على الألفاظ أو العبارات اللغوية. كما اصطنع رسل منهجا للتحليل للوصول إلى المكونات الأساسية التي يتألف منها الفكر عن طريق التحليل اللغوي، وأيضا عن طريق تحليل المفاهيم والتصورات الرياضية وتحويلها إلى مفاهيم منطقية. وقد حصر رسل مهمته في أن «يمنطق الفلسفة كلها، من أجل أن تقلع الفلسفة عن دراسة الوجود الكلي، وأن تقنع بدراسة الوجود العام، وهو الوجود المنطقي الذي أراد أن يحصر فيه الفلسفة كلها»،
25
فالمعروف أن السمة الأساسية التي تجمع بين فلاسفة التحليل هو عداؤهم الشديد للفلسفة المثالية والميتافيزيقا بوجه خاص.
نامعلوم صفحہ