بعد المشرقين فبئس القرين ، وهو المشرق والمغرب، قال المفضل: «بقيت مسألة» قال: «وما هي؟» قلت: «أراد بالشمس إبراهيم
صلى الله عليه وسلم
خليل الرحمن، وبالقمر محمدا
صلى الله عليه وسلم ، والنجوم الخلفاء الراشدين من آبائك الصالحين، وهو تفسير يرمي إلى نوع من النفاق، قال: «يا فضل بن الربيع احمل إليه مائة ألف درهم ومائة ألف لقضاء دينه»، إلى كثير من أمثال هذه الحكايات التي تدل جملتها على ثقافة واسعة، واستفادة من المفضل والأصمعي والكسائي وأمثالهم.»
ويروي المفضل أيضا أن الرشيد استدعاه، وسأله عن بيت من الشعر فأجاب وفق ما توقع الرشيد، فنزع الرشيد من يده خاتما قيمته ألف وستمائة دينار، فلما علمت الخيزران بذلك أعطته الألف والستمائة، وأخذت الخاتم منه، وردته إلى الرشيد؛ لأنه كان يعجب به، فرده الرشيد إلى المفضل، وقال له: «لا يليق بالخليفة أن يسترد ما أعطى»، فصفا له الألف والستمائة.
امتزاج الثقافات
وإلى جانب ذلك كان في عهد الرشيد اختلاط الثقافات كأنها جداول صغيرة تكون منها نهر كبير ... فأولا: كان من هذه الثقافات الثقافة الفارسية، وهي التي عظمت في الدولة العباسية مما ألفها عبد الله بن المقفع وأمثاله، وقد كسبت الثقافة الإسلامية العباسية من الفرس أشياء كثيرة منها الألفاظ اللغوية، وخاصة ما ليس للعرب عهد بمدلولاتها، مثل ألفاظ المأكولات الفارسية، والنباتات االفارسية، وضروب الملابس، والأثاث، والرياش ...
روي أن فارسيا ناظر عربيا بين يدي يحيى بن خالد البرمكي ... فقال الفارسي: «ما احتجنا إليكم قط في عمل ولا تسمية، ولقد ملكتم فما استغنيتم عنا بأعمالكم ولا لغتكم، حتى إن طبيخكم وأشربتكم ودواوينكم، وما فيها على ما سمينا ما غيرتموها كالاسفيداج، والسكباج، والدوغياج، وكالسكنجين، والخلنجين، والجلاب، وأمثالها، وكالروزنامج، والاسكدار وأمثالها» فسكت عنه العربي، فقال له يحيى بن خالد: قل له: «اصبر لنا نملك كما ملكتم ألف سنة، بعد ألف سنة كانت قبلها لا نحتاج إليكم، ولا إلى شيء كان لكم»، ونقرأ في كتاب البيان والتبيين للجاحظ، فنراه يستعمل ألفاظا كثيرة من أصل فارسي ... فيسمي الطريق إذا التقى فيها أربعة طرق «جهارسو»، والجهارسو فارسية، ويسمي السوق وازار، والوازار فارسية، وهكذا.
وثانيا: نقلوا كثيرا من كتب الأدب الفارسية الأصل ... وكثيرا من القصص الفارسية، ويحكون أن كتاب ألف ليلة وليلة أصله فارسي، وقد ترجم عبد الله بن المقفع كتاب كليلة ودمنة عن الفارسية، كما ترجموا عن الفارسية كتاب زرادشت المسمى افستا، ترجموه هو وما عليه من شروح، وقد ترجم الحسن بن سهل كتاب «جاويدان خرد» عن الفارسية. •••
هذا إلى أن كثيرا من الفرس كانوا قد أسلموا وتعلموا العربية، فكانوا ينقلون إلى العربية ما تعلموه من أفكار فارسية، كما نقل كثير من التوقيعات والحكم إلى العربية من غير نص عليها، بل لعل من كان من أصل فارسي كله أو بعضه - كبشار بن برد وأبي نواس - لهم معان مأخوذة من أصل فارسي، ومن رأي ابن خلدون: أن كثيرين من واضعي العلوم كسيبويه واضع النحو، وأبي حنيفة واضع الفقه، ونحوهما من أصل فارسي، وأن الفارسيين في هذا الباب أكثر من العرب، وسواء صح هذا أو لم يصح، فأقل ما يدل عليه أن كثيرا من الفرس وضعوا كثيرا من العلوم.
نامعلوم صفحہ