واشتهرت من مدن مصر الفسطاط، وهي أول مدن المسلمين في مصر ... اتخذها العرب معسكرا لهم حين فتحوها، ثم أخذت تزدهر حتى فاقت البصرة والكوفة، وزودت في أيام العباسيين بكل ما تحتاج إليه المدن، وزاد من جمالها وقوعها على النيل، ثم كانت القيروان بالمغرب، ودمشق وحمص في الشام، والموصل بالعراق، والأهواز بفارس، ومكة والمدينة في جزيرة العرب، ولا نطيل في وصفها؛ لأن ذلك يحتاج إلى كتاب وحده، وكلها كانت سببا في ثروة الخلفاء العباسيين، وإغداقهم المال على الولاة والعمال والأدباء والفنانين.
وقد اختلفت مزايا كل قطر من ناحيته المادية والمعنوية، فلكل بلد حاصلاته، وما يتقنه كالكاغد، والنسيج، والتمر من البصرة، والثلج من جبال لبنان، والسكر من الفرس إلى غير ذلك، كما كان الشأن في العلوم؛ فحركة صوفية تنشأ في مصر، وحركة اعتزالية تنشأ في بغداد، وأدب يتأقلم بكل إقليم، ومما قاله المقدسي في ذلك: «إن إقليم العراق إقليم الظرفاء، ومنبع العلماء ... لطيف الماء، عجيب الهواء، مختار الخلفاء، أخرج أبا حنيفة فقيه الفقهاء، وسفيان سيد القراء، وأبا عبيدة، والفراء، وبه البصرة التي قوبلت بالدنيا، وبغداد الممدوحة في الورى، وكوفة الجليلة، وسامرا، وقد لون كل أدب وعلم بلون أهله، ونبغ من كل بلد نابغون هم نتاج إقليمهم.»
ازدهار التصوف
وفي عهد الرشيد نما في العراق التصوف، والدعوة إلى الاهتمام بباطن النفس لا بظواهرها، وبحقيقة الشريعة لا مجرد أعمال الجوارح، ورياضة النفس عن طريق الزهد والعبادة، والوصول إلى المعرفة عن طريق الوحي والإلهام، وإدراك الحقيقة بالذوق والشعور لا بالمنطق والتجارب والقياس، واشتهر من المتصوفة: إبراهيم بن أدهم سنة 162، وشقيق البلخي سنة 195، ومعروف الكرخي سنة 200، وهو القائل: «التصوف الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الناس»، ثم بشر الحافي سنة 222، وهو القائل للمحدثين: «أدوا زكاة هذا الحديث» قالوا: «ما زكاته؟» قال: «أن تعملوا بخمسة أحاديث من كل مائتين ...»
وأخذ المتصوفون يضعون الكتب في التصوف كما كان يفعل الفقهاء في تأليف الفقه.
وثار الخلاف بين الفقهاء والمتصوفة؛ لاختلاف النزعتين، فالمتصوفة يعتمدون على القلب وعلى الذوق، وعلى المعرفة من طريق الإلهام، والفقهاء يعتمدون على ظاهر القرآن والسنة، وعلى الاستنباط العقلي.
وكانت الخصومة أشد ما تكون بين المتصوفة والحنابلة؛ لشدة تمسك الحنابلة بظاهر النصوص، ورميهم الصوفية بالزندقة.
الرشيد في قصر الخلد
تولية الرشيد
في هذا الوضع، وفي هذا الجو، وفي بغداد هذه، وعلى هذا النظام الذي ذكرنا بعضه تولى الرشيد ... وقد جلس على العرش في قصر فسيح يسمى «قصر الخلد»، بناه جده المنصور، وجعله في الجانب الغربي من دجلة - وهو يقع في منحنى نهر دجلة بإزاء باب خراسان - حتى إذا شبت نار الثورة كان في استطاعته أن يفر إلى خراسان، وهي أهم مؤسس للدولة العباسية، وفي ناحية من نواحيه على الشاطئ الآخر قصور البرامكة ... هذا قصر يحيى، وهذا قصر جعفر، وهذا قصر الفضل.
نامعلوم صفحہ