فطبيعي أن البيت الواحد إذا كان فيه حرائر متعددات وملك يمين متعددات، كثر الخلاف بين الحرائر بعضهن وبعض، أو بين الحرائر والإماء، وبين الأولاد لتعدد أمهاتهم، خصوصا وأن من طبيعة الرجل أن يفضل بعضهن على بعض، إما لجمالهن أو لأخلاقهن، أو لغير ذلك، فإذا فضل بعضهن دبت الغيرة في الباقيات، وكثرت الشحناء والدسائس والمؤامرات.
وعلى الجملة انحل البيت، وقع بين الإخوة من أمهات مختلفة في العادة أشد أنواع العداء، وفي التاريخ حوادث كثيرة من هذا القبيل كالذي حدث بين الأمين والمأمون؛ فالأمين أمه حرة عربية، والمأمون أمه جارية فارسية، ويعلل ابن خلدون انحلال البيت بكثرة الترف، ولكن لم يكن الترف حظ كل المسلمين، ولا أغلبهم ... إنما هو حظ الخلفاء والأمراء وكبار التجار وأضرابهم، أما سائر الشعب ففقراء. •••
يضاف إلى ذلك أن الرجال - وقد قعدوا عن الجهاد - اتسع وقتهم فتفرغوا للشهوات، والإفراط في الشهوات يضعف الهمة، ويقصر العمر ، ولذلك كان متوسط أعمار الخلفاء قصيرا بالنسبة لمن عداهم، وكذلك إذا فضل الرجل إحدى زوجاته فضل أولادها أيضا، فكرهه الآخرون كما في قصة يوسف وإخوته.
وإذا شعر الابن بأنه ابن جارية تباع في الأسواق، كان عنده مركب النقص بالنسبة لولد الحرة، كالذي كان بين الأمين والمأمون، وكلما كان الخليفة أغنى وأترف كانت الجواري عنده أكثر عددا، وكان النزاع في البيت أشد، وفسد الأولاد من رؤيتهم أمام أعينهم عددا كثيرا من الشابات الجواري في القصر الذي يعيشون فيه.
وكان الغرام وتبادل النظرات إلى غير ذلك كالذي يحدثنا به ابن حزم في كتابه طوق الحمامة، ولولا لطف الله، وتغلب الإسلام عليه لانهارت أخلاقه كما انهارت أخلاق كثير من الناس، وكما حكي أن المأمون كان يغازل جارية بعينه، وهي تصب الماء على يد أبيه، فلاحظ ذلك الرشيد، واستنكر فعلته، وإذا كانت الأمة مؤلفة من أسر متعددة متنافرة فإنها تنحل بانحلال هذه الأسر. •••
وشيء آخر هام، وهو: أن البيت إذا فسدت أخلاقه بما فيه من تفضيل بعض على بعض، وحسد وغيرة، ومنافسة وعداء بين الأولاد، وعداء بين الأمهات ... أصبح هؤلاء الأمهات غير قادرات على تربية الأولاد تربية صحيحة، وخرجوا إلى الأمة ضعاف العقول، ضعاف الأخلاق، كثيري الدسائس والمؤامرات، ضعيفي الهمة، والقارئ لكتاب الأغاني عن بيت ابن رامين الذي يقول الشاعر فيه:
هل من شفاء لقلب لج محزون
صب يغيب إلى ريم بن رامين
إلى ربيعة إن الله فضلها
بحسنها وسماع ذي أفانين
نامعلوم صفحہ