أبهة واستبداد
فلما جلس الرشيد كانوا ينصبون له في الساحة الكبيرة في القصر سريرا وكراسي، ويفترشون له الطنافس والمصليات، والوسائد تطوى طيتين، وكانت الستور تقام لتحجب الخليفة إذا أراد، وتزاح إذا أراد، ثم عينوا الحجاب على الأبواب ليمنعوا الدخول على الخليفة إلا بإذن، فإذا أذن الخليفة أو الأمير لأحد تقدم بالسلام، وربما أضافوا إليها السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وربما قبلوا يد الخليفة عند التحية إذا أحس القادم رغبة من الخليفة في ذلك، فلما ازدادوا عظمة ترفعوا عن مد يدهم للداخلين.
وفي عهد العباسيين اخترعت بدعة تقبيل اليد أو الكم، فإذا استعظموا قائدا منعوه من تقبيل يدهم أو كمهم، ثم يجلسون في مجلس الخليفة حسب مرتبتهم، يتولى إجلاسهم في مجالسهم الحاجب، وهذه تختلف باختلاف الدول ...
فكان الأمويون في عهد بني أمية يجلسون الأمويين أقرب مجلس للخليفة، أما العباسيون فكانوا يجلسون بني هاشم أقرب مجلس إليهم؛ لأنهم أنفسهم من بني هاشم، وإذا أجلسوا بني هاشم أجلسوهم على الكراسي، وأقعدوا بني أمية أعداءهم على الوسائد، وقلما كان يكون ذلك، وقد منع الخلفاء العباسيون الكلام، ومخاطبة الزائرين بعضهم لبعض في مجلس الخليفة، ولا ينهض أحد لداخل إلا إذا نهض الخليفة، ثم هم لا يبدأون الخليفة بكلام إلا أن يبدأ، فإذا لم يكلمه ظل ساكتا. •••
ولم يشذ عن ذلك إلا المأمون؛ لرغبته في سماع الجدل والمناظرة، وغلبة ذلك عليه أكثر مما يميل إلى التقاليد المرعية، وربما قلده فيه غيره من بعض الخلفاء الذين أتوا بعده، ومنعوا أن يؤمر أحد في حضرة الخليفة بأمر ليكون هو الآمر وحده، وطلبوا إلى الداخل أن يصغي بكل جوارحه إلى الخليفة، وينتبه كل انتباهاته إلى إيماءات الخليفة وإشاراته، ومنعوا أن يعزى الخليفة، وأن يسأل كيف أصبح، وكيف أمسى، وإنما يجوز ذلك لطبيبه الخاص، وبالغوا في الحجاب.
وكان لكل خليفة كلمة أو إشارة يقولها عند الإذن من حضرته بالانصراف، فكان السفاح - مثلا - يتثاءب، ويلقي المروحة من يده، وكان المأمون يعقد الإصبع الوسطى بإبهامه، وكان من انصرف يوجه وجهه نحو الخليفة حتى يصل إلى الباب بظهره ثم ينصرف، وكان على باب قصر الخلد في عهد الرشيد مكان يجتمع فيه الوفود من شعراء ومغنين ومضحكين، لعله يخطر ببال الخليفة طلب نوع منهم، وتكون له الحظوة، وشجع على ذلك كثرة ما كان يعطيه للوافدين، أو مما يعرضه تجار الجاريات والسلع، وكثيرا ما تصطدم عطاءاته برغبة الوزير، كالذي حكي أنه أمر مرة بشراء جارية مغنية بآلاف من الدراهم، فاستكثرها يحيى البرمكي ... فأحضر المبلغ، وكومه في مكان يطلع عليه الرشيد في ذهابه إلى الوضوء وجيئته.
فلما رأى الرشيد المبلغ استكثره، ومع ذلك صمم على تنفيذه إرادته، وانتقد يحيى البرمكي في سره حتى قالوا: إن هذه الحادثة أيضا من أسباب نكبتهم ... •••
ولقد كان المظهر مظهر أبهة وفخفخة واستبداد وتقاليد دقيقة، في الجلوس والحديث والانصراف، مما ورثوه عن الأكاسرة من قبل، ولا يعرفها الإسلام، وهذه كلها خلعت قلوب الناس، وأماتت روحهم، وجعلتهم كأنهم أحجار شطرنج مفقودة الإرادة، كما أن هذه السلطة الواسعة للخليفة مكنت للرشيد أن يتصرف في الناس تصرف الحاكم المستبد المطلق الحرية، ولولا ذلك ما أمكنه أن يقبل - مثلا - كل الإقبال على البرامكة، فتكون لهم السلطة المطلقة ... ثم ينقلب عليهم، وينكل بهم، ويصادر أموالهم، ومن يلوذ بهم.
فالنظام السائد إذ ذاك كان نظاما منسجما يناسب بعضه بعضا؛ ففي حكم الرشيد - مثلا - استبداد لا إلى حد أحيانا، وسماحة لا إلى حد، ولا يدري من يطلبه الخليفة أذاهب هو إلى القبر؟ أم راجع بآلاف الدنانير؟ إذ لا قوانين ولا اتهام، ولا دفاع للمتهم عن نفسه، ولا عمل بقانون شرعي أو قانون وضعي، فرقاب الناس كلهم معلقة بفم الخليفة ... قد يأمر بالسعد كله، وقد يأمر بالشقاء كله، وكل الأمور من معاملة الولاة للرعية، والرعية للوالي، وعلاقات الناس بعضهم ببعض تتشابه، وقديما قالوا: «الناس على دين ملوكهم.»
ومع هذا فيجب أن ننظر للرشيد على أنه حاكم شرقي مستبد له كل مزايا الحاكم المستبد من إغناء من شاء، وإسعاد من شاء، وسرعة التنفيذ فيما يرى، والخضوع والطاعة من غير تعب، وفيه رزايا الحاكم المستبد من سفك دماء من شاء، وسلب الناس حقوقهم وحرياتهم، وخضوع الناس للهوى الذي لا يعرف أين يتجه، لا لقانون معروف، ونحو ذلك.
نامعلوم صفحہ