14
وقيدت الحادثة ضد مجهول؛ فما كشف الخطاب عن شيء للنيابة، فما كان أحد ليعرف خط كمال، وما كان أحد ليفكر في كمال ليستكتبه.
لم يكشف الخطاب عن شيء للنيابة، ولكنه كشف لملاك قرية السلام الطريق الذي لا بد لهم أن ينهجوه؛ لقد عرفوا أنهم لا بد لهم أن يدفعوا الإتاوة التي تفرض عليهم، وعرفوا أنهم إلى الموت إن فكر واحد منهم أن يشي بالخطابات التي ترد إليهم مع الليل.
وحاول الشبيبة المثقفون في القرية أن يثنوا القوم عن طاعة الأوامر، ولكن هيهات لهم أن يصلوا بشجاعة ألفاظهم إلى القلوب الراعدة بين أضلاع القوم المساكين، وراح التاجر أبو عليوة يخرج كل يوم بأقطان من القرية، فتعرف القرية أن الإتاوات قد دفعت مساء أمس عن كل قنطار خرجت به سيارة التاجر صباح اليوم.
وقد كان يصاحب كل سيارة خارجة حركة نشاط من المثقفين، ولكنه نشاط يبلغ مصيره دائما إلى الفشل.
وكان فخري قد جاء إلى القرية تلبية لأمر أبيه، واستقبلته الفاجعة في بيته، فراح يبذل كل جهده أن يصل إلى خيط يهديه، ولكن من أين له والفرائص من حوله ترتعد، والألسن لا تملك أن تتحرك خفية في أفواهها؟
لقد كان أمر أفراد العصابة مجهولا، وفي ستار الجهل بهم كانوا يعرفون ما يدور بالقرية جميعا، فإذا القرية وقد غشيها الذعر الراجف، تلتقي الأعين حسرى كليلة، ويدور الحديث - كل حديث - فلا يلبث أن ينتهي إلى صمت مفاجئ، ويطرق المتحدثون، فقد كان كل حديث يؤدي بهم إلى الرزء الذي انحط على القرية، والذي لا يستطيعون أن يصفوه؛ فقد ملأهم الخوف أن يصفوه.
الشك والريبة والمهانة والخوف، يحذر الأخ أخاه والأب ابنه والابن أباه. النسوة ذاهلات حيارى. لقد رأين رجالهن ضعافا خانعين فانعدمت الثقة في نفوسهن، فما أصبحن يثقن بأحد ولا بشيء.
العمدة جازع، تزداد نفسه ذلة أمام نفسه، رائح كل يوم غاد إلى المركز ومنه، لا يدري ماذا يقول ... أيقول إنه دفع الإتاوة هو أيضا، وإنه لا يدري إلى من دفعها؟ أيقول إنه وهو العمدة قد تلقى الرسالة مثل من تلقاها؟ وإنه خرج من باب الحريم في دواره وذهب في بهيم الليل إلى خص في عرض الصحراء، ودفع إتاوة إلى قوم ملثمين لا يبين منهم شيء في ذلك الضوء المتهافت الذي اصطنعوه في خصهم؟
ماذا يقول العمدة وماذا يفعل إلا عبرة تنحدر من عينيه كلما ذكر وقفته من جماعة الخير وهم جلوس، ودفعه لهم المال يكاد يرى السخرية به في أعينهم الخبيثة، بل في أيديهم التي امتدت إلى ماله، والتي كانت مغطاة هي أيضا بالقفازات القطنية؟ ماذا يقول العمدة وماذا يفعل؟
نامعلوم صفحہ