وبينما هي تعمل وتلهث وقد شمرت ثوبها الأسود وربطته حول وسطها كما يفعل الرجال، رأت خيالا ثم سمعت صوتا يقول: بتعملي إيه يا بت؟
وحتى قبل أن ترفع رأسها كانت قد عرفت أن صاحب الصوت هو محمد بن قمرين.
ورفعت عزيزة رأسها وعدلت ظهرها ومسحت عرقها وقالت له الحكاية، ورجته أن يسمح لها بمعاودة البحث، وقال محمد كلاما كثيرا عن الحفر وكيف يضعف الأرض ويخفي طميها ويبور المحصول. غير أنها عادت ترجوه وتلحف في الرجاء حتى بكت، ويبدو أنها صعبت على محمد، فلم يوافق على معاودة الحفر فقط، ولكنه كان شهما فقال لها: طب عنك إنتي.
وخلع جلبابه وأخذ منها الفأس، وتلفت حوله بعين خبيرة ثم انتقى مكانا ما لبث أن راح ينهال بالفأس عليه، وعزيزة قد جلست غير بعيد ترقبه وتقارن بين حفرها وحفره، والفأس في يدها هي اقوى منها وأثقل والفأس في يده هو، هو القابض عليها، هو المتحكم فيها، هو الرجل، هو الرجل الذي يذكرها بعبد الله حين كان يعمل، وتصبح له العضلات البارزة في بطن ساقه، وتتكور تلك العضلات الأخرى في بطن ذراعه، ويلهث. ليس لهث المتعب، ولكنه لهث الرجل حين يعمل، لهث منتظم قوي وقور.
كان محمد بن قمرين في العشرين، وكانوا يتكلمون عن زواجه من ابنة قريبة لهم، وكان معروفا بشراسته حتى إنه لم يكن يتورع عن سب النساء، ولكنه كان من الغيط إلى البيت ومن البيت إلى الغيط، لا يعرف قهوة ولا غرزة ولا أي كلام فارغ مما يعرفه شبان القرية صياعها. حمدا لله إذن أنه عاملها برفق، حمدا لله أنه لم يشتمها، وكتر خيره أنه تطوع بأن يبحث لها عن جذر البطاطا.
خبط محمد خبطتين متواليتين ثم قال لها وهو يبتسم وصوته يضحك، وربما لأول مرة كانت تراه يبتسم أو يضحك: خدي يا ستي.
وناولها جذر بطاطا صغيرا فرحت به كاللقية، وكادت تهم بالوقوف والذهاب جريا إلى عبد الله بما حصلت عليه. ولكنه قال لها: استني، وبعد خبطات قليلة أخرى ناولها حبة بطاطا ذهلت لضخامتها، فلم تكن جذرا، كانت حبة حقيقية في حجم قبضة اليد أو تزيد.
لفت عزيزة البطاطا في طرف شالها ولسانها يردد كل ما تعرفه من كلمات الشكر وتعبيراته ودعواته، تتوجه بها إلى السماء تطلب له طول العمر ونجاح المقاصد. واستدارت ملهوفة فرحانة لكي تأخذ طريقها إلى البلد، فالشمس كانت قد أوشكت على الغروب والدنيا تمست وإلى أن تصل البلدة يكون المساء قد حل.
ولكنها في لهفتها وفرحتها لم تفطن إلى الحفرة التي كانت وراءها وعلى هذا فقد فوجئت بنفسها تسقط مرة واحدة نصفها في الحفرة ونصفها على الأرض.
والواقع أنها لم تتبين تماما ما حدث بعد هذا، الأمور حدثت بطريقة أسرع من أن تدركها أو تتلافاها. ما كادت تحاول أن تقوم حتى كان محمد إلى جوارها في الحفرة يساعدها. مرة واحدة وجدت نفسها في حضنه وقد أطبق عليها بذراعيه ليرفعها. وهي وإن كانت قد ارتعشت حين أحست بنفسها في حضن رجل غريب، إلا أن الرجل الغريب لم يكن سوى محمد الكشر الذي لا يتسرب إليه الشك. ولكن الشك بدأ يتسرب فعلا إليها حين لم يرفعها محمد ولم يدعها ترفع نفسها، وما كاد الشك يتسرب إليها حتى كان قد أصبح حقيقة، روعت أولا ولكنها استجمعت نفسها ودفعته وناضلت، ولكنها كانت ترى أن نضالها لا فائدة منه. بل ليست تدري على وجه الدقة سر هذا الانهيار الذي أصابها حين أصبحت في حضنه. تريد أن تقاوم ولا تستطيع. تستميت، ولكنها يائسة. تصرخ فيتجمع الناس وتصبح فضيحة ومضغة في الأفواه؟ تسكت؟ تعضه؟ حتى ملابسها التي لا تحتكم على غيرها مزقها، كل ما حدث أنها ظلت تئن مذهولة مرعوبة حتى قام. وشتمته، ولكن ماذا تفيد الشتائم؟ لم يقل هو حرفا، فقد ظل ينظر هنا وهناك. الغيط خال تماما والبهائم والناس تروح من بعيد. وعاد إليها من جديد. وهذه المرة كان يمكن أن تقوم وتجري وتضربه بالفأس إن اضطرت، ولكنها لم تفعل. سكتت وظلت تئن أنين المظلوم الذي لا يخلي نفسه من مسئولية ظلمه.
نامعلوم صفحہ