خرج عبد المطلب من الماء، ومع أن المنطقة بأسرها كانت خالية من الأحياء إلا أنه حين أصبح في العراء انثنى على نفسه، وضم يديه يخفي بهما عورته، وبسرعة كان قد ارتدى ملابسه، ملابس كثيرة مهرأة يضمها جميعا «بالطو» سميك مهيب أصفر اللون ذو تاريخ حافل؛ إذ اشترك في الحرب العالمية الأخيرة مع الحلفاء على هيئة خيمة، ثم انتهى كما ينتهي المحاربون القدماء إلى تلك النهاية.
وأخيرا صلى عبد المطلب ركعتي الحاضر والسنة، ولفع البندقية ذات الروحين على كتفه، ومضى على جسر الترعة يخب في نعليه المصنوعتين من كاوتش العربات.
وبينما كان ماضيا في طريقه إلى العزبة الكبيرة، فوجئ عبد المطلب بجسم أبيض غريب يرقد على جانب من الجسر. وفرح عبد المطلب فهو - ككل الناس - ما يكاد يرى على الأرض شيئا يختلف لونه عن لون الأرض إلا ويعتقد أنه عثر على «لقية»، ويدق قلبه بالفرح.
غير أنه حين بربش بعينيه، وعبد المطلب مع أنه خفير إلا أن نظره على قده خاصة في الضوء، ما كاد يرى الشيء حتى تسمر في مكانه مذعورا ومضى يصرخ: الله حي، الله حي، الله حي.
ذلك أن الشيء لم يكن إلا جنينا حديث الولادة.
دق قلب عبد المطلب دقة عالية واحدة كالطفلة، ثم انزوى يلهث في صدره ويرتجف؛ فهو «صحيح» خفير، ولكن ما يراه أمامه الآن شيء مختلف تماما عن اللصوص وقطاع الطرق؛ ولهذا فقد كان أول ما فكر فيه أن يطلق ساقيه للريح ويجري؛ إذ للوهلة الأولى اعتقد أن ما أمامه عفريت ابن جنية، ما في ذلك شك.
غير أن عبد المطلب لم يجر، بل وجد نفسه بعد ثوان يقهقه قهقهة عالية أعلى من أي قهقهة أخرى أطلقها في حياته؛ إذ كان يضحك على نفسه، فقد أدرك بطريقة ما أن ما أمامه ليس عفريتا أو شيئا من هذا القبيل، ولكنه رضيع ابن حرام على وجه الدقة، وما كاد يتبين هذا حتى قهقه؛ فقد تصور لأمر ما أيضا أن الجنين الذي يراه الآن هو ثمرة لليلة الماضية التي قضاها مع زوجته، ولدته بعد أن غادرها ليستحم في الترعة ويتطهر، ثم ألقت به في الطريق.
كان الخاطر لا معنى له؛ إذ من غير المعقول أن تحمل زوجته وتلد جنينا كاملا في نفس الليلة، ولكنه فكر فيه؛ فالإنسان وهو مرعوب قد يقف عقله ويهرب بجسده، أو قد يحدث العكس فيتسمر بجسمه في مكانه ويهرب بعقله، والعقل في جريانه المفزوع لا يتقيد بأي معقول.
وعلى أية حال لم تطل قهقهة عبد المطلب؛ إذ قطعها عليه إحساسه المفاجئ بالمسئولية، ومع أن البقعة التي وجد فيها الرضيع ليست من اختصاصه؛ إذ هي من اختصاص خفير الجرن، إلا أن بعض الناس أحيانا لا يكادون يجدون ثمة خطأ حتى يلصقوه بأنفسهم ويحس الواحد منهم أنه هو المسئول عنه، ويبدأ يدافع عن نفسه ليتهرب من المسئولية. وهكذا ظل عبد المطلب واقفا أمام اللقيط يدير في رأسه خطط الدفاع عن نفسه أمام الناس وأمام مأمور التفتيش و- لا قدر الله - أمام النيابة والمحاكم، وبينما عبد المطلب يفعل هذا كان قوس الشمس الأعلى قد بدأ يصفر ويبيض ويجوب الأفق مستكشفا، وحين اطمأن إلى أن كل شيء على ما يرام برزت من ورائه الشمس بحجمها الأحمر الهائل، ومع بروزها بدأت الدنيا تزهزه وتدعو الكائنات إلى اليقظة والعمل، وبدأ أبو قردان يصرخ ويرفرف، وبدأ الناس يظهرون، أفرادا متناثرين أول الأمر قادمين من الجامع بعد الصلاة، أو آخذين طريقهم إلى الترعة يغسلون وجوههم ويستحمون.
ومع زهزهة الدنيا كان عقل عبد المطلب هو الآخر قد بدأت تعود إليه رباطة جأشه وبدأ يتفتح، وكانت فكرة ما قد واتته بعد أن فشل في تخليص نفسه من المسئولية:
نامعلوم صفحہ