حرکات اصلاحیہ
محاضرات عن الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث
اصناف
ولهذا كان حكام العصر يخشون دائما بأسهم؛ لأن هذا البأس مستمد من قوة الشرع، ومن قوة الشعب الذي يعبرون عن آرائه وحقوقه.
ولهذا أيضا كان معظم الحكام يوقرون هؤلاء العلماء، ويسعون إليهم يسألونهم الرأي والمشورة والنصيحة، ومصداق هذا ما قاله الجبرتي في ترجمته للشيخ محمد بن سالم الحفني؛ فقد وصفه بأنه «كان قطب رحى الديار المصرية، لا يتم أمر من أمور الدولة إلا باطلاعه ومشورته.»
ومن هذا النوع من العلماء الشيخ علي الصعيدي، وكان معاصرا للأميرين الكبيرين اللذين حاولا أول محاولة للاستقلال عن الدولة العثمانية، وهما: علي بك الكبير ومحمد بك أبي الذهب، وقد كانا يجلان الشيخ ويبجلانه، فإذا دخل عليهما أفسحا له وقبلا يده، ولم يردا له شفاعة، وكان كثير الشفاعة لديهما.
وكان الناس يلجئون إليه دائما بشكاواهم، فيرصدها في ثبت؛ حتى لا ينسى شيئا منها، ثم يذهب بها إلى أبي الذهب، فيجيبه إلى كل ما يطلب، ولا يخالفه في شيء مما يرجوه فيه، وإذا حدث وأبدى شيئا من الامتعاض أو التردد قال له الشيخ: «لا تضجر ولا تأسف على شيء يفوتك بغير حق في الدنيا؛ فإن الدنيا فانية، وكلنا نموت، ويوم القيامة يسألنا الله عن تأخرنا عن نصحك ، وها نحن نصحناك وخرجنا من العهدة.»
أما إذا امتنع الأمير عن رفع مظلمة من المظالم فإن الشيخ كان يصرخ في وجهه ويقول له: «اتق النار وعذاب جهنم»، ثم يمسك يده ويقول: «أنا خائف على هذه اليد من النار.»
وفي أواخر القرن الثامن عشر في عهد الطاغيتين: مراد وإبراهيم، ثارت خصومة بين رجل فقير من عامة الشعب وأمير من أمراء المماليك، ولجأ الرجل إلى القضاء، فحكم له، فثار الأمير وأرعد وأبرق، وأبى أن يخضع لحكم القانون، وأدرك العلماء أنهم حماة الشرع، فطالبوا باحترام كلمة القانون، وتزعمهم الشيخ الدردير، وأيدهم الشعب في غضبتهم، وقامت مظاهرة خطيرة في شوارع القاهرة، وأغلق التجار حوانيتهم، وكاد الأمر ينتهي إلى فوضى شاملة، لولا أن تداركه بعض العقلاء من الأمراء، فأرسلوا إلى الأمير المغتصب يطلبون إليه النزول عند رأي القانون، فأذعن مضطرا، ولكن العلماء لم يأمنوا لهذا الإذعان، وأصروا على أن يحصلوا على وثيقة تثبت هذا الحق، فكتب صلح رسمي أقر فيه الأمراء بالتزام ما يقضي به القانون ويحتمه الشرع.
وبعد ذلك بقليل اعتدى والي القاهرة على رجل قصاب من أهل الحسينية، وعنف عليه، واشتد في مطالبته بأموال للحكومة، وأراد أن يقبض عليه بغير أمر شرعي، فثار أهل الحسينية ولجئوا إلى الشيخ العروسي، فحمل الشيخ الشكوى إلى الأمراء، وجادلهم في شأنها، وطالبهم بالتزام حدود الشرع، واضطر الأمراء إلى الإذعان، وعزلوا الوالي، وعينوا مكانه واليا جديدا، ونزل الوالي الجديد إلى الأزهر وقابل المشايخ واسترضاهم.
وفي سنة 1209ه/1795م اشتد أحد الأمراء في مطالبة الأهالي في بلبيس بالأموال، ونالهم من شره أذى كثير، فشكوا ما أصابهم إلى الشيخ الشرقاوي، والشيخ من الشرقية، وقد ناله شيء من هذا العنت، فقد كانت له أرض في بلبيس، فسعى بهذه الشكوى إلى مراد وإبراهيم، وأراد أن يمنع الظلم بالحسنى، ولكن الأميرين ركبا رأسيهما، ولم يصنعا شيئا، فدعا الشيخ الناس إلى الثورة، فاستجابوا له، وسادت الفوضى في القاهرة، وكاد الأمر ينتهي إلى ثورة دموية شاملة، وعند ذلك خضع الأمراء! يقول الجبرتي في وصف هذه الأحداث وما انتهت إليه: «فنزل الباشا إلى بيت إبراهيم بك، واجتمع الأمراء هناك، وأرسلوا إلى المشايخ، فختم الشيخ السادات والسيد النقيب والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ الأمير ... ودار الكلام وطال الحديث، وانحط الأمر على أنهم (أي الأمراء) تابوا ورجعوا، والتزموا بما شرط العلماء عليهم، وانعقد الصلح على شروط؛ منها ... أن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس ... وأن يسيروا في الناس سيرة حسنة ... وكان القاضي حاضرا بالمجلس، فكتب حجة عليهم بذلك، وفرمن
1
عليها الباشا، وختم عليها إبراهيم بك، وأرسلها إلى مراد بك، فختم عليها أيضا، وانجلت الفتنة ورجع المشايخ، وحول كل منهم وأمامه وخلفه جملة من العامة وهم ينادون ...» (2) الظاهرة الثانية: محاربة البدع والخرافات
نامعلوم صفحہ