فتردد يونس السايس قليلا، ثم تساءل: والسادة والأعيان ماذا يكون مصيرهم؟
فقال عاشور بقوة ووضوح: إني أحب العدل أكثر مما أحب الحرافيش وأكثر مما أكره الأعيان.
48
ولم يتوان عاشور ربيع الناجي ساعة واحدة عن تحقيق حلمه، ذلك الحلم الذي جذب به الحرافيش إلى ساحته، ولقنهم تأويله في الخلاء، وحولهم به من صعاليك ونشالين ومتسولين إلى أكبر عصابة عرفتها الحارة.
سرعان ما ساوى في المعاملة بين الوجهاء والحرافيش، وفرض على الأعيان إتاوات ثقيلة حتى ضاق كثيرون بحياتهم فهجروا الحارة إلى أحياء بعيدة لا تعرف فتوة ولا فتونة. وحتم عاشور على الحرافيش أمرين؛ أن يدربوا أبناءهم على الفتونة حتى لا تهن قوتهم يوما فيتسلط عليهم وغد أو مغامر، وأن يتعيش كل منهم من حرفة أو عمل يقيمه لهم من الإتاوات . وبدأ بنفسه فعمل في بيع الفاكهة، وأقام في شقة صغيرة مع أمه، وهكذا بعث عهد الفتوة البالغ أقصى درجات القوة وأنقى درجات النقاء. ولم يجد الشيخ جليل العالم بدا من الثناء عليه، والجهر بالتنويه بعدالته، وكذلك يونس السايس فعل، ولكنه ارتاب في ضميرهما، ولم يشك في أنهما يتحسران على الهبات التي كانت تتسرب إليهما من الأعيان، وعند توزيع الإتاوات بين أفراد العصابة الهاربة.
وما لبث الشيخ جليل العالم أن هجر الحارة فعين مكانه الشيخ أحمد بركات. ولما كان يونس السايس معينا من قبل السلطة فقد تعذر عليه هجرها، وكان يغمغم وهو منفرد بنفسه في دكانه: لم تبق في الحارة إلا الزبالة!
وكان يفضي بذات نفسه إلى زين علباية الخمار، فيتساءل الرجل في قلق: حتى متى تدوم هذه الحال؟
فيقول يونس السايس: لا أمل مع بقاء الوحش على قيد الحياة.
ثم يتنهد مواصلا: لا شك أن أناسا مثلنا تناجوا بما نتناجى به الآن على عهد جده الأول، فاصبر وما صبرك إلا بالله.
49
نامعلوم صفحہ