حقیقت
الحقيقة: وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
اصناف
وأما ما ذكره عن هكسلي وهكل بأنهما رأيا بطلان زعمهما - أي القول بالتولد الذاتي - وأنهما أنكرا الباتيبيوس والمونير وغيرهما من جنس البروتيست كالأميب والموناس، وصارا يعدانها بين الأوهام، فيحتاج إلى إثبات، فإنهما - على ما أعلم - لم يريا بعد بطلان مذهبهما، ولم يرجعا عنه، وسواء علينا رجعا أو لم يرجعا. والذي أعلمه علم اليقين أنهما ما برحا يؤيدان هذا المذهب، ولم ينفردا فيه وحدهما، بل أنصارهما كثيرون، وعددهم يزداد يوما عن يوم لازدياد الاكتشافات، واتضاح الحقائق العلمية.
فكيف أمكنه - والحالة هذه - أن يرد إلى مذهبه عصبة قوية صعبة جدا بمجرد كلام ليس فيه صعوبة؟ أو كيف جاز له أن يضرب فيهم مثل ذلك الفلكي الذي سقط الحباحب على زجاجة نظارته وهو - لعمر الحق - أولى بطائفة الحيويين الذين أقاموا من الأوهام حقائق. ولا أقول ذلك استخفافا، بل إنما أقول الواقع؛ فإن القوة الحيوية التي يزعمون بوجودها ليست - والحق أولى أن يقال - إلا بقية أوهام تجلببت بجلباب الغيوم، وركبت على أجنحة الرياح، وطارت وطارت في طبقات السماوات، واحتجبت فيها، وإلا فليقل لي جنابه: ما هي القوة الحيوية؟ ومن أين أتت؟ وما نسبتها إلى المادة والأجسام الحية؟ فأرجو أن يجاوبني على هذا السؤال - الذي تقدم مني، والذي سدل عليه الستر في مقالته «كشف الأستار عن الأسرار» - بكلام لا يدع معه مجالا للتأويل. ا.ه.
الحياة والجاذبية1
إن تأييد القول في كون الحياة جاذبية، وكون المادة ذات حس باعتبار الحس في أبسط ما يكون عليه؛ لا بد فيه أولا من تجريد الحياة من كل قوة فوق الطبيعة؛ لكي يمكن حصرها في القوى الطبيعية، أي في قوى المادة نفسها. وهذا هو السبب الذي جرنا في المباحثة إلى الكلام في ملازمة القوة للمادة، وفي التولد الذاتي وما يتضمنه من تكون الأنواع الحية متسلسلة عن بعضها على سبيل الاستحالة، مما تبرأ منه جناب المعترض بقوله: إن تلك مسائل لا يعنيه أمرها في هذا المقام، مع أنه يستحيل حصر الكلام في الحياة والجاذبية إلا بعد الاتفاق على نسبة الحياة إلى المادة لتعرف أعارضة هي أم لازمة، وبغير هذا الاتفاق يكون البحث في الحياة والجاذبية ضربا من العبث، فكل واحدة منها مقدمة ونتيجة معا للباقي، فلا يصح أن يعد النظر في هذه المسألة على هذه الصورة شرودا أو عدولا.
ولقد تقدم بيان ذلك فيما سبق جملة على قدر الإمكان، فقال: إنه لا يزال غير واف بالمقصود، لا في إثبات الحس للجماد، ولا في كون الحياة جاذبية، ولا في غير ذلك؛ لأن الجماد لا يصدق عليه الانفعال الحيوي؛ إذ لا يؤثر الأيثير في انفعاله، ولا تفعل الجاذبية فيه ما تفعل الحياة في الحي، ولا يخفى ما في ذلك من المؤاخذة، مع أن القوة التي تفعل في التبلور على قياس معلوم تختلف في عملها كثيرا عن سواها من القوى الطبيعية كالحرارة مثلا.
فعلى مقتضى قياسه يجب أن يكون بينهما فاصل في الطبع، فإن سلم هذا سلم له ذلك أيضا، فإذا كان الأيثير لا يظهر فعله في الجماد، فذلك لا يتخذ حجة على اختلاف طبع ما يفعل في انفعاله عن طبع ما يفعل في الأجسام الحية؛ لأن القوة تختلف ظواهرها بحسب مظاهرها، والحس نفسه غير متساو في طبقات الأجسام الحية، ولا انفعاله بالأيثير فيها على حد واحد، وقد لا يؤثر فيما كان منها بسيطا جدا، أو لا يظهر لنا تأثيره كما في المركبات الآلية.
ومن المعلوم أن من خصائص المواد الحية سرعة انحلالها، فأين انحلال بعض المواد الحيوانية من انحلال بعض المواد النباتية التي تكاد تكون في ثبوتها كالجماد؟ أيمنع ذلك النسبة الكائنة بينها؟ أو لا يعتبر هذا الفرق بينها نسبة متدارجة؟ فلماذا لا يعتبر هذا الفرق في الجماد كذلك نسبة لانحطاطه في طبقات الكوائن؟ ألعله لا يقر باستحالة المواد والقوى، فأين الفكر المركب من الحس البسيط؟ وأين الكهربائية من الحركة؟ فالقوة العامة في الكون، والتي اصطلح العلماء على تسميتها بالجاذبية - سواء أفاد هذا الاسم شيئا أو لم يفد - هي القوة التي ترجع مركبات القوى إلى بسيطها، وهي التي ترجع الحياة إليها أيضا، وقوله: إن اعتبار الانفعال في الجماد حسا بسيطا شيء جديد لا يراه موافقا لآراء العلماء، ولا منطبقا على تعاريفهم، قلت: إن بحثنا ليس فيما هم متفقون عليه، بل فيما هم مختلفون فيه، وإلا لما كان داع لذلك كله.
وأما قوله: إن العلوم غير الطبيعية تعلمنا بأن القوة قد تنفك عن المادة، فنجيبه: إن العلوم الطبيعية لا تعلمنا ذلك، وبحثنا فيها لا في تلك، قال: إن وجود قوة لا تلازم المادة ممكن، وضرب لذلك - مثلا - ملازمة الحياة للمادة إلى زمن محدود، قلنا: متى مات الجسم الحي أين تذهب القوة الحيوية: أتبقى كامنة في مواده أم تفارقها أصلا؟ أما نحن فنعلم أن المادة لا تتلاشى، والقوة لا تتلاشى كذلك، فلا شيء من مواد الجسم الحي يتلاشى من العالم المادي متى مات، ولا شيء يتلاشى من القوى التي فيه، فمواد الجسم الحي متى انحلت تتغير كثيرا في الصورة عما كانت عليه فيه، كذلك الحياة تتغير في الخاصة أيضا، فهذا ما نذهب إليه ويذهب إليه أكثر الطبيعيين، ونحن لا ننكر بأن كيفية ذلك تخفى علينا، ولكن تخفى علينا أمور أخرى كثيرة طبيعية أيضا، إلا أننا لا نستطيع إلا الإقرار بأن ما نعلمه من تكون الأنواع بالاستحالة طبقا لنواميس عامة لا تتغير برد كل شيء إلى المادة ونواميسها، التي هي هي ثابتة غير متزعزعة، تفعل مضطرة غير مختارة على قياس معلوم على حد سوى في الجماد والنبات والحيوان.
ولكن لماذا تظهر في الحي على خلاف ما تظهر في الجماد، فعلى حد قولنا: لماذا يعوم الخشب ويغرق الحديد؟ فلا يقتضي أن ينمو الجماد ويغتذي كما ينمو الحي ويغتذي، وإلا صار حيا، وهل تقتضي القوى إذا كانت من طبع واحد أن تكون أعمالها واحدة، كيف كانت؟ وأين كانت؟ ألا ترى أن ذلك يفضي بنا إلى أن يكون الكون واحدا متساويا في الصورة، حيوانا واحدا، أو نباتا واحدا، أو جمادا واحدا، والواقع هو بخلاف ذلك؟
أما ما قاله من اختلاف جواهر العناصر في التركيب بين الحي والجماد، وما فيه لنا من المسامحة الظاهرة، فيحق لنا أن نسامحه عليه لا لأن الاختلاف المذكور غير موجود، ولكن لاعتماده عليه فاصلا بين طبيعة وطبيعة، كأن الجواهر المذكورة غير مادية، أو كأنه لا يمكن الحصول على مثلها في الطبيعة، وفي المعامل الكيماوية بواسطة القوى المادية.
نامعلوم صفحہ