حقیقت
الحقيقة: وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
اصناف
وهذا لا يلزم منه أن تكون ناشئة رأسا من القوى المذكورة في حالها المعروف اليوم، وأن يكون ذلك غير ممتنع عقلا، كما أن الإنسان ليس ناشئا من القرد رأسا؛ أي إن الحياة لا يلزم أن تكون اتصال كمال القوة المبلورة، بل من أصلها، كما أن الإنسان ليس اتصال كمال القرد، بل من أصله، ولا يلزم أن تكون حركات الحياة كحركة دقائق الجماد، كما أن اعتبار القوى المعروفة من أصل واحد كالحرارة والكهربائية والنور - مثلا - لا يلزم منه أن تكون حركات كل قوة منها كحركات الأخرى، ولا يمنع أن تكون حركات الحياة من جنس حركات الدقائق، كما أن اختلاف حركات القوى الطبيعية لا يمنع كونها من جنس واحد.
وبهذا الاعتبار لا تختلف قوى العالم بعضها عن بعض، ولا تختلف مواده كذلك إلا اختلاف المركب عن البسيط، أو اختلاف الفصل عن النوع، والنوع عن الجنس. وهذ الاختلاف لا يكون جوهريا إلا إذا أريد بالجوهر الكيفية لا الذات، وعليه فلا يكون في اعتبارنا تأثرات المادة نوعا من الحس شيء غريب باعتبار الحس في أبسط أحواله، وباعتبار الحياة نوعا من الحرارة، والحرارة نوعا من الحركة، والحركة صفة لازمة للمادة وأم كل القوى.
نعم، إذا أريد بالحس كما يتبادر منه إلى الفهم لغة، يكون مثل هذا القول في منتهى الغرابة، ولا يجوز أن يطلق على النبات ولا على غير الحيوان العالي، إلا أن الحس كما يراد به فسيولوجيا يقسم قسمين كما تقسم الحياة قسمين كذلك: حسا حيوانيا للحياة الحيوانية، وهو يقتضي العلم به، ويسمى حسا معلوما، وحسا نباتيا للحياة النباتية؛ كحس المعدة والقلب والأوعية الشعرية وسائر أعضاء الحياة الآلية، ويسمى حسا غير معلوم.
ومن هذا القبيل أيضا حركات أوراق السنط الحساس وغيره من جوارح النبات التي تقتنص الذباب وتهضمه في أوراقها الملتفة عليه وتغتذي به، فهذا الحس ليس فيه شيء من الإدراك، وهو بعيد عما يتبادر من معناه إلى الذهن، فإذا صح أن يسمى هذا النوع من التأثر حسا؛ جاز لنا مع مراعاة النسبة أن نتوسع ونقول: إن المادة تحس؛ لأن نسبة تأثرات قضيب معدني إلى حس النبات السافل ليست أبعد من نسبة حس هذا النبات إلى حس الإنسان.
ثم إذا أطلقنا الحس على الحيوان والنبات وجب أن نطلقه على كليهما لا على بعضهما، ولا يخفى ما بين أنواعهما من المباينة في إبداء دلائل الحس، ولا يخفى كذلك صعوبة التمييز بين عالم وعالم من العوالم الثلاثة، بحيث تعتبر آفاقها مختلطة، قال الطبيب في المقالة المذكورة آنفا: «والحاصل أن كثيرا من العلماء يرون أن الكائنات متداخلة بعضها في بعض، فلا توجد حدود حقيقية فاصلة بينها؛ لأن أدنى مراتب النبات والحيوان متصلة ببعض مراتب الجماد.» وكيف لا توجد «حدود حقيقية» بين عالم الأحياء وعالم الجماد، وتوجد هذه الحدود بين القوى الفاعلة فيهما؟ بل كيف يمكن الاشتباه إن لم تكن القوة فيهما من طبع واحد؟ لعمري إن ذلك غريب.
نقول: ومن عجيب ما ورد في كلام الفلاسفة المتقدمين على هذا الارتباط والارتقاء أيضا كلام لابن خلدون في مقدمته، قال: «ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن، ثم النبات، ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج: آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات، وآخر أفق النبات متصل بأول أفق الحيوان. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده، واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية.» ا.ه. والحاصل أن المسافة البعيدة التي كان يزعم أنها تفصل الحياة عن سائر قوى الطبيعة فصلا مطلقا لم يبق منها اليوم سوى فرق جزئي لا يصح أن يعتبر كذلك، إلا أن ذلك يدعو إلى النظر في مسألة أخرى ربما كانت من أكثر المسائل إشكالا على الطبيعي، وهي التولد الذاتي.
الفصل الثاني
في التولد الذاتي
اعترض الاستاذ «بتر» على الذين يجعلون الجراثيم سبب الأمراض عموما - والأستاذ المذكور ممن يذهب إلى أن الجراثيم قد تكون نتيجة المرض لا سببه دائما؛ أي ممن يذهب إلى التولد الذاتي للأحياء الدنيا - قال من مقالة، نشرت في العدد 160 للأنيون مديكال، سنة 1884، حاول فيها الفصل بين التدرن الرئوي والخنازيري ما نصه:
إن الكيماوي الذي يعلمني أن الألفة الكيماوية تقدر بزيادة مكافئ من الكلور أن تحول مادة غير سامة كأول كلورور الزئبق «زئبق حلو» إلى سم قتال كثاني كلوروره «سليماني»، والذي يعلمني أيضا أن مواد متساوية المكافئات الكيماوية كالحامض البراطريك والحامض الطرطريك تقدر بموجب ناموس الأيزوميريا أن يكون لها خصائص مختلفة، بحيث إن بعضها يحول النوع المستقطب إلى اليسار، وبعضها إلى اليمين، ويعلمني كذلك أن مادة كالفسفور الأبيض المتبلور السام يتحول بموجب ناموس الألوتروبيا تحت حرارة 240 إلى جسم أحمر عديم الشكل غير سام، يريد أن ينكر علي التصديق بوجود ألفة وايزوميريا والوتروبيا حيويات قادرة على أن تفعل في جسدي كما تفعل في الأشياء التي من خارج، وتولد في حالة المرض دقائق مريضة وأنسجة مريضة كما تولد في حالة الصحة دقائق صحيحة وأنسجة صحيحة ... ا.ه.
نامعلوم صفحہ