حقیقت
الحقيقة: وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
اصناف
ثم ما الغرض يا ترى من نفي الجوهر الفرد، فإن كان الغرض من ذلك نفي المادة أصلا، فكيف نصنع حينئذ بوجود العوالم؟ وهل ما نراه وهم من الحواس؟ وإن كان القصد نفي وحدتها وإثبات تعددها، فذلك لا ينفي وحدة ولا يثبت تعددا، وإذا كان لا بد من وجود المادة متعددة كانت أم واحدة، فما المراد من نفي الحركة عنها؛ أيثبت لها السكون؟ وما الدليل عليه - والسكون المطلق لا علم لنا بوجوده؟ وإذا كنا لا نعلم بوجود السكون، فكيف استطعنا أن نحكم به أو نتصوره؟ وإن كان الغرض من ذلك نفي النشوء وإثبات الخلق، فهذا لا ينفي نشوءا ولا يثبت خلقا، فنيوتن أثبت مذهب ديموقريطس ولم ينف خلق الجوهر الفرد، فنفي الجوهر الفرد لا ينفى به شيء يراد نفيه، ولا يثبت به شيء يراد إثباته من هذا القبيل، وما هو إلا وهم، أو هو ضرب من التمويه للإيهام.
الفصل السابع
مناظرة أصحاب الخلق وأصحاب القدم
وخالف الماديون سواهم في أصل المادة فقالوا: إنها أزلية؛ لأنهم رأوا أن المادة كالقوة لا يستطاع خلقها ولا ملاشاتها، فهي واحدة لا تنقص ولا تزيد ولا تتغير إلا في الصورة، قالوا: ونحن لا نعلم غير ذلك، فرد عليهم أن عدم العلم بالشيء لا يجعله غير ممكن، فالحدوث ممكن، قال الماديون: ولكن ذلك ليس من باب العلم، بل من باب الإيمان، وهذا لا ننازعكم لأجله، ولا يحق لكم أن تنازعونا كذلك، فرد عليهم: بل من باب العلم العقلي؛ أي الفلسفة، والفلسفة العقلية لا ترى بدا من الإقرار به.
قال الماديون: إن العقل لا يعلم شيئا غير ما أتى به الاختبار، ولا يحكم بشيء إلا بالقياس على هذا العلم، فإذا كنا لا نعلم خلق المادة ولا ملاشاتها، فكيف يمكن لنا أن نحكم بهما؟ وما الفلسفة إلا القياس العلمي بأوسع ما يقدر العقل أن يتصرف فيه - وقد تقدم أن العلم لا يدرك ذلك - فالفلسفة لا تقدر أن تدرك إلا ما يأذن العلم به، فرد عليهم: وكيف جاز لكم إذن الحكم بالجوهر الفرد وعلمكم لا يدركه؟ قالوا: إنا وإن كنا لا ندركه فإنما حمكنا به لانطباقه على الحوادث التي لا بد من الاعتراف بها، فحكمنا به من باب القياس العلمي.
فرد عليهم: «على أنا لو سلمنا بأن الأجسام مؤلفة من أجزاء لا تتجزأ، فلا نسلم بأزليتها بلا برهان ولا دليل على ذلك سوى الوهم، كما هو دأبكم في كل أصول مذهبكم المادي.» قالوا: أما دليلنا فعلمي؛ لأن المادة - كما تقدم - لا يستطاع خلقها ولا ملاشاتها، وعقلي؛ لأن العقل لا يسلم بوجود شيء من لا شيء ، ولا باستحالة شيء إلى لا شيء. فيا للعجب! كيف ترموننا بعد ذلك بالوهم؟! فما دليلكم يا ترى غير الإيمان؟! وأي أقرب إلى الوهم؟! فرد بأن الشيء لا يقدر أن يوجد نفسه، ولا بد له من موجد سواه؛ ولهذا يحكم بخلق المادة؛ لأنها موجودة ولا تقدر أن توجد نفسها.
قالوا: فمن أين علمتم أن الشيء لا يوجد نفسه؟ أولا ترون أنه يصح لنا أن ندفع قولكم بنفس اعتراضكم؟! ثم نحن لا نجعل للعالم بداية مطلقة، ولا نعلم له نهاية كذلك حتى يقال: إنه أوجد نفسه، فنحن نسلم به كما هو، كما أنكم تسلمون بالمبدع كما هو.
قال أصحاب الخلق: إن ما نراه في الوجود من النظام يدل على القصد، ولا بد من عقل مدرك يقصد هذا القصد، ومادتكم غير عاقلة، فهي لا تدرك حتى تقصد، فرد أصحاب القدم: إن ما تسمونه قصدا نسميه ضرورة، فالعوالم لما كان بعضها مرتبطا ببعض بنواميس معينة كان من الضرورة أنه إذا حصل تغير في شيء يحصل تغير مطابق له في سائر الأشياء، ولذلك لم يكن العالم، ولا هو كائن، ولن يكون بعضه بالنسبة إلى بعض إلا منتظما، واللانظام عندنا أمر نسبي.
ثم لو كانت علامات القصد موجودة لاقتضى أن تكون هذه العلامات تامة، والحال أننا نرى أشياء كثيرة لا ينطبق القصد عليها، ولا تنطبق إلا على الضرورة، قالوا: إنكم تجعلون الهيولي واحدة؛ أي متماثلة، وكيف يمكن للشيء المتماثل أن يترتب مع نفسه ويظهر بصور مختلفة؟ فردوا عليهم: إنكم نخالكم تسلمون بتحول القوة من حال إلى حال، وهي واحدة، أي متماثلة في أصلها، فكيف لا يكون للمادة ما للقوة المتصلة بها؟ ثم إن تماثل الذات لا يلزم منه تماثل الصفات، وإلا لكان العالم جمادا واحدا، أو نباتا واحدا، أو حيوانا واحدا، والواقع بخلاف ذلك، قالوا: وإن كنا نسلم بأن القوة واحدة، ولكنا لا نسلم بأنها تقدر على هذا التحول إلا بالعناصر وهي مختلفة، بخلاف هيوليكم فإنها متماثلة.
فرد الماديون: إنا لا نفهم معناكم، ولا نفهم كيف تفهمون أنفسكم؛ فإنكم قد ناقضتم وضع مذهبكم، ألا تعلمون أن وحدة القوة يلزم منها وحدة المادة، وإلا كانت القوة متعددة أيضا؟ فالقوة - أو كما تسمونها أيضا الحركة - ليست سوى اهتزاز أجزاء المادة، وكيف تكون متماثلة إن لم تكن هذه الأجزاء المادية المهتزة متماثلة كذلك؟ وكيف توفقون بين القولين؟
نامعلوم صفحہ