لبنانی حقیقت: خیالات اور گفتگو
الحقيقة اللبنانية: خواطر وأحاديث
اصناف
لكن أردت - ولم أرد أمرا آخر - أن الاستقلال ما كان، ولا يصح أن يكون، معنى قائما بذاته في دنيا القيم النظرية، منفصلا عن البلد المستقل أو - وهو الأقرب إلى الصواب - عن أبناء البلد، فضلا عن أن الاستقلال ما كان، ولا يصح أن يكون، لفظا من هاتيك الألفاظ الطنانة التي تدل على كل شيء ما خلا الواقع والحقيقة. لا، فالاستقلال مادة حية، أو هو جسم يستمد الحياة من لحم الأمة ودمها، ومن ثمة أيضا يستمد القوة والبقاء. ولست أعني بهذا أن الشعب هو الذي يقدم في الأزمات الحادة قرابينه، ذودا عن الاستقلال، أو يفتديه بأفراد منه في ساعات الخطر، بقدر ما أعني ذلك المدد «الجمهوري» المستمر، من النشاط والتضحية، في الحالة الطبيعية، في سياق الحياة العادية.
إن الوطن اللبناني قد استتم - أو كاد - حدوده الدولية أو الدبلوماسية، باعتراف الدول الديمقراطية الكبرى وجاراته العربيات بهذا الاستقلال، وكان طبيعيا أن تخص تلك الناحية من الوضع الجديد، بما خصت به من الاهتمام والعناية خلال عام ونيف. لكن من الطبيعي أن لا نغفل في الوقت نفسه، عن هذه الحقيقة، وهي أن الاستقلال ليس وضعا خارجيا دوليا وحسب، بل هو أيضا وبالدرجة الأولى وضع داخلي شعبي؛ فإن أوثق ضمانة لاستقلالنا هي أن يحس الشعب إحساسا مباشرا حيا بأن هذا الوطن الذي «ينعم» اليوم بالاستقلال، هو له، هو وطنه، «ينعم» هو بخيراته - وليس لأفراد أو فئات منه، كل شيء يتبدل في الدنيا وهم لا يتبدلون. فقد نسلم بأن الوطن اللبناني ينعم بالاستقلال «مجازا»، إنما الذي يمكن القول إنه ينعم بالاستقلال «حقيقة» فهو الشعب اللبناني. على أنه ليس بكاف أن يقال هذا للشعب حتى يخف إلى التصديق؛ فالشعب اللبناني اليوم يطمح إلى ما ما وراء القول: الشعب اللبناني الضمانة الباقية؛ إذ كل ضمانة سواها عرضة للزوال. ... الشعب اللبناني، الضمانة الأولى والأخيرة - الضمانة الباقية - للاستقلال وللكرامة الوطنية. وبعد، أليس هذا الاستقلال وهذه الكرامة الوطنية الملازمة له، واسطة لا واسطة سواها، إلى الغاية التي لا غاية وراءها، وهي أن يحيا الشعب اللبناني حياة سعيدة، في أرضه العزيزة، متفيئا ظلالها، ناعما بخيراتها؟ إن استقلال الوطن اللبناني يتوقف، إلى مدى بعيد، على استقلال الشعب اللبناني، وتمتعه بحرياته المدنية والسياسية تمتعا صحيحا. ومتى قلنا الشعب اللبناني، فلا بد من أن ندخل في الحساب جماهيره العاملة المنتجة، في كل ميادين العمل والإنتاج؛ نعني: السواد الأعظم الذين هم، بفضل أنظمتنا الحاضرة، بعيوبها الأصيلة وعيوب تطبيقها، يحسون إحساسا بليغا بأنهم بعيدون جد البعد من أن يحققوا في أنفسهم معاني الاستقلال والكرامة؛ فليس يجدي الوطني شيئا أن تعلن حقوقه وحرياته، إذا لم يعط في الوقت ذاته الوسائل الضرورية لممارسة تلك الحقوق والحريات، إنها تبقى هكذا حبرا على الورق، بل كتابة على الماء. ومن البديهي أن هذه العناصر الشعبية لم تكن ممثلة، على صورة ما، في جهاز الحكم اللبناني، لا مباشرة ولا بالواسطة. وتأويل ذلك بسيط غاية في البساطة؛ ذلك أن جميع القوى تضافرت، خلال الانتخابات الأخيرة، على عزل تلك العناصر وتنحيتها، ويجب القول إنها قد وفقت كل التوفيق. لكن ترى، هل يظل لبنان في معزل عن الحركة العظمى التي تغمر العالم، حركة القوى الشعبية المتصاعدة، حتى تسد الأفق؟ أكبر الظن أن هذا لم يبق في الإمكان، ولا سيما بعد أن أثبت الشعب اللبناني نضجه السياسي، ووعيه الاجتماعي، ورغبته الصادقة في أن توجد لمشاكله الحيوية الحلول الملائمة. ونحن أحرياء، منذ تحققت أمنية الوطن اللبناني في الاستقلال والكرامة، بأن ننتظر تحقيق أماني الشعب اللبناني في استقلال جماهيره العاملة المنتجة، وفي «مراعاة» كرامتها الإنسانية، بتوفير الأسباب لتمتعها بالحقوق كل الحقوق، وبالحريات كل الحريات.
كل شيء يؤذن بوشك انتهاء الحرب، وبانتهائها على ما نشتهي ونريد. لم نكن بحاجة إلى هذا البرهان الأخير كي تطمئن نفوسنا؛ إنارة البلد، على أنه - والحق يقال - برهان «ساطع». إن هذه العبارة «البرهان الساطع» قد استعملت في معميات كثيرة، كان البرهان الساطع يزيدها تعمية في بعض الأحيان، وكأنها ظلت مئات السنين تنتظر، حتى استعملت الآن في الموضوع الذي خلقت من أجله. إن إنارة البلد لبرهان ساطع على وشك انتهاء الحرب، وعلى انتهائها كما نشتهي ونريد؛ فالعدو الألد أمسى عاجزا عن أن ينالنا بسوء، ولا ننس أنه يوجد نوع من الخلق ما كانوا ليؤمنوا إلا بهذا النوع من البراهين. - أأنت تقضي سهرتك هنا؟
هكذا تكلم صديق غاب عني نحو أسبوعين، وقد رآني جالسا على الفرندا في فيض من النور.
أجبت: نعم! هو كما ترى. وأنا أقرأ اليوم (سقط الزند) للمعري، وشرحه (ضوء السقط)، وشرح شرحه (التنوير)؛ أريد أن أثأر لنفسي من تلك (اللزوميات) التي قضيت فيها سني الحرب بطولها، ملتمسا النور في «تعتيمات» شيخنا الأعمى رحمه الله، ثم لا تنس أن المعري هو القائل:
ليلتي هذه عروس من الزن
ج عليها قلائد من جمان ... إذن لأيام خلت، كنا في حالة يسمونها تارة التعتيم، وتارة خنق الأنوار. إن في خنق الأنوار معنى، بل زيادة معنى ليست في التعتيم، هو معنى العنف الذي يلابس الأجرام؛ خنق الأنوار، وخنق العلم، وخنق الحرية، وما أشبه. ويدل في الوقت نفسه على الحالة الروحية الناشئة عن ذلك التعتيم الذي لا أجد ما أصفه به إلا أنه، في عصر النور هذا، ظلام «مصطنع»، وكذلك هم يسمون الدهان الذي يطلى به زجاج النوافذ «تمويها».
يحكى أن أعرابيا أعور أصيبت عينه السليمة بحجر، فوضع يده عليها وقال: «الحمد لله! أمسينا.» يريد أنه دخل في العتمة التامة، أو بعبارة أخرى أصابه العمى، كما أصبنا نحن بالتعتيم، خلال هذه السنوات الخمس التي جردت فيها الزنجية الحسناء، دون حياء، من حليها الوضاءة، وهي كل ثيابها.
لقد حرمتنا الحرب ممارسة حريات متنوعة، وكانت أول حرية أبيحت لنا حرية التنوير، وهي الحرية التي تهم الحرب مباشرة بلا مراء، وأكبر الظن أن ستتبعها سائر الحريات التي لا علاقة لها، قريبة أو بعيدة، بميادين القتال وسلامة القواعد، وإنما تنسبها السياسة إلى الضرورات العسكرية، على سبيل الاختصار، أو حسما للقيل والقال. وهكذا فإن الأعضاء الزائدة في الجسم الإنساني، تبقى بعد أن ضاعت وظائفها، لكنها هنا تؤدي من الوظائف غير ما وجدت له، وبالأمس طالب فريق من أفاضل النواب برفع المراقبة عن الصحف، ومما هو حري بالانتباه أن الاقتراح جاء خلال نقاش دائر حول الحملات التي يكون المجلس النيابي عرضة لها من وقت إلى آخر، فأثبت النواب أنهم لا يخشون العدو الوهمي، كما أثبت الدفاع السلبي أننا صرنا في نجوة من غارات النازي المتخاذل، فطلبوا إلغاء هذا الضرب الآخر من التعتيم الذي يدعونه بالمراقبة؛ عسى أن يسير عهدنا الاستقلالي الديمقراطي نحو أكثر فأكثر، من الحرية والنور.
لما تسلم الجانب اللبناني من الجانب الفرنسي، في احتفال رائع وصفه الواصفون، طابورا من القناصة، كما ترد الأمانات إلى أهلها، جالت الألسنة والأقلام في موضوع الجيش الوطني، ولا غرو فهو حقا موضوع جدير بأن تجول فيه الألسنة والأقلام، بل لعله أجدر المواضيع بالإكثار من التحدث عنه، وبالإفاضة في شأنه، وتقليب وجوهه العديدة. إن المتحدثين كلهم نظروا في الموضوع من ناحية أو نواح معينة، فألقوا عليها نورا كاشفا، لكنهم جميعا كانوا يخلصون إلى مثل الغاية الواحدة، فتمتزج الآشعة في «شلة» من الضياء واحدة. وغني عن البيان أن هذه الأحاديث، على بكرة أبيها، كانت تنبض بشعور الغبطة العميقة الشاملة التي تخالج قلب كل لبناني، كلما رأى بعيني رأسه، استقلال الوطن يستتم تدريجا شروطه ومقوماته، كشخص الحبيب تنحسر عن ملامحه الوسيمة، رويدا رويدا، عتمة الخفاء. وبديهي أن تلك الغبطة العميقة الشاملة ما كانت ولن تكون وقفا على الكتاب والشعراء، وإن يكن هؤلاء يجيدون أكثر من غيرهم، وصفها والعبارة عنها والإشادة بذكرها، ليؤذن لي أنا أيضا أن أقول كلمتي في الموضوع.
نامعلوم صفحہ