ففتح إدورد فاه مستهجنا هذا القول. - يا لله! لم أسمع بأغرب من هذه القضية. - لا تستغرب. تحب فتيات كثيرات، ولكنك لا تتزوجهن كلهن. - أحقيق أن الإنسان يحب غير واحدة؟!
يظهر أن إدورد الشاعر الدارس جاهل في الحب، فكان يظن أن المرء لا يحب في حياته إلا شخصا واحدا، ولا بدع أن يظن كذلك وهو في أول حب؛ لأن كل مبتدئ في الحب يظن حبيبه الحبيب الأول والآخر، على أن خاله برهن له فساد هذا الوهم؛ إذ قال: نعم يحب كثيرات مع الأيام على أنه لا يحب غير واحدة في الوقت الواحد، وكثيرون من الشبان يتزوجون غير الفتيات اللواتي أحبوهن. - تعني الخونة في الحب؟ - كلا، بل الصادقين الأمناء أيضا. - كيف ذلك؟ - ذلك أن التي تحبها إما أنها لا توافقك زوجة، أو أنها تخونك فتغفلها، أو أنها لا تمنح لك لسبب اجتماعي: كأن تكون أشرف أو أغنى منك، أو أن تكون أوضع فتستنكف أن تأخذها زوجة أو نحو ذلك. وإذ تصمم على الزواج تبحث عن فتاة أخرى تلائم حالك وترضي عقلك قبل أن ترضي قلبك، وتوافق مصلحتك لا هواك. - كل هذا يتعذر علي فهمه يا سيدي، وجل ما أعقله من فلسفة الحب أني إذا أحببت أحب واحدة فقط كل حياتي، وأتأكد أنها تحبني، وإذ ذاك لا أسلم أنها تخونني أو تتغير علي، وسواء كنت أرفع منها مقاما أو أدنى؛ فلا أنا ولا هي نستنكف أن نكون زوجين، وإن قامت في سبيل زواجنا موانع بقينا حبيبين أمينين إلى الأبد بلا زواج. هذا ما أعقله وأشعر به ولا أقدر أن أتحول عن الاعتقاد به.
فسكت المستر هوكر برهة، وهو يتأمل كيف يقنع إدورد بفساد اعتقاده، وبعد هنيهة رفع رأسه ونظر إليه قائلا: أتظن أني أغشك أو أكذب عليك يا إدورد، أو أني أقصد إغراءك؟ - لا. - أتظنني غرا قليل الاختبار؟! أترى أني مكابر في مناقشاتي؟ - كلا البتة. - فأنا أكلمك عن اختبار تام، وأقول لك حقيقة راهنة يعتقد بها كل الجمهور، ولسوف تعلمها بنفسك وهي أن الزوجة قد تكون غير الحبيبة، ومتى صارت زوجة صارت هي الحبيبة الوحيدة إذا كان الزوج ذا مبادئ قويمة. - عجيب! كيف يحب المرء من يشاء؟! هل الحب تحت أمر الإرادة؟ - منشأ الحب حب النفس، فحيث يكون للنفس مصلحة يتجه القلب بقوة الحب، وفي الزوجة الفاضلة المستوفية كل صفات الزوجية أعظم مصلحة للنفس، فإذا حكمت عقلك فقال لك إن هذه الفتاة أفضل لك كزوجة من تلك انصرف حبك عن تلك إلى هذه، وأما إذا استسلمت لهواك عميت عن مصلحة نفسك طبعا.
وساد السكوت نحو دقيقتين، وكل منهما يتأمل: المستر هوكر يتأمل في ماذا يكون تأثير كلامه على إدورد، أيرعوي وينقاد أم أنه يصر على هواه. وإدورد يتأمل في ماذا تكون خاتمة هذه العظة. وفي كيف يكف خاله عن نصحه. ثم استعاد المستر هوكر الحديث قائلا: أظن أن قلبك في قصر كنستون يا إدورد؟ - نعم هناك مودع يا سيدي.
فعيرت لهذا الجواب رجة تغيظ في صدر المستر هوكر، ولكنه أخفاها عن إدورد وقال: ونعم المستودع، لا تظن أنه يسيئني أن تودعه مس بنتن يا إدورد، فقد برهنت بإيداعه هناك على كبر نفسك وأنك نشأة علاء ومجد، وما ذهبت عنايتي فيك سدى، ولكن أتعلم أن حبك لابنة اللورد بنتن أو بالأحرى اللايدي بنتن عقيم ويستحيل أن يثمر، وأن خاتمته الهوان لك؟ - أما أنه عقيم فأعلم، وأما أن عاقبته الهوان فلا أظن. - بماذا تظن هذا الحب ينتهي؟ - لا أدري. - أنا أدري، إذا لم ينته بزواج فلا بد أن ينتهي بخذلان، وبما أنه لا ينتظر أن اللايدي بنتن تنزل عن كبريائها، وترضى أن تزوج ابنتها لغير لورد مهما كان غنيا فلا بد أن تشعر يوما من الأيام بصلة الهوى التي بينك وبين ابنتها؛ فتخذلك بل تخزيك بل تطردك من منزلها طردا.
عند ذلك ابتدأ إدورد يشعر باشمئزاز من خاله ويحس بمثل الكره له، واستتم هذا كلامه قائلا: وإلا فماذا تظن نهاية حبكما تكون؟ - لا أظنه ينتهي في هذا العالم ولا في الآتي.
فضحك المستر هوكر وهز رأسه قائلا: وهل تقنع بهذا الحب العقيم؟ - قانع ومسرور. - أتظنك تثبت عليه إلى نهاية الحياة؟ - من غير شك.
فضحك المستر هوكر جدا وقال: أعذرك يا بني فإن علم المدارس غير علم الزمان أصغ إلي يا إدورد فإني أحبك جدا. أحبك حبا أبويا. اعص هواك في هذه الساعة، وعد إلى عقلك وحده؛ فتجد أني أبتغي لك السعادة الدائمة.
وأما إدورد فكان يستقبل هذا الكلام كما يستقبل الصخر الصلد نقط المطر، تقع عليه وتتزحلق عنه، وأما خاله فاسترسل في كلامه: دعني أكلمك بحرية ضميري ما دمت مقتنعا أنك وأليس متساويان عندي في كل اعتبار. اعلم أني ربيتك أنت وابنتي معا، واعتنيت بكما عناية واحدة، وجمعت ثروة كبيرة على قصد أن تتمتعا بها معا، وهيأت لكما مجدا لم تحلما به ولا خطر على بال أحد من الناس. أما المال فلابنتي بحكم الشريعة؛ لأنها هي الوارثة الوحيدة لي، ولكني أقسمه بينكما مناصفة على أي حال، وأما المجد - انتبه لهذا المجد - الذي أعددته لكما فهو لكما معا متحدين وهو عدم إذا كنتما منفصلين.
ثم جذب المستر هوكر «درج» المكتب إليه، وتناول منه «حقيبة زرقاء» صغيرة وقال: لا تظن هذا المجد الذي أكلمك عنه شيئا موهوما البتة، بل هو شيء حقيقي مخبوء لكما في هذه الحقيبة.
نامعلوم صفحہ