فقالت بصوت متهدج: كيف؟ - متى اضطرم القلب بالحب حمل سائر البدن على التجمل؛ فيكون الحب سبب الجمال هنا، ومتى رأى قلب آخر ذلك الجمال اشتعل بالحب كذلك القلب؛ فيكون الجمال سبب الحب هنا. هكذا ترين الجمال والحب يستقويان الواحد بالآخر كحليفين يتفقان على القلب.
فسكتت لويزا بعد هذا الكلام لأنه لم يبق لها مجال فيه إذ أصبح جريها في مضمار هذا الحديث شططا عن جادة الأدب، ولكنها كانت تود أن تسمع المزيد من إدورد لتستعلن كل أفكار قلبه، فكانت تنظر إليه باسمة، ولسان حالها يقول: «ثم ماذا؟» أما إدورد فصار لسانه قلقا في حلقه، يتعثر باللفظ، والحمرة انتشرت في كل محياه، ولكن الفرصة السانحة ورضاء لويزا عن حديثه شجعاه على الاسترسال فيه فقال: مسكين هذا القلب يشتهي الحب وهو آفته، يستلذه وهو محنته، يحوم حوله كالفراشة حول النور فيلتهمه. - كذا تعتقد؟ - نعم، لأني أعرف من نفسي يا سيدتي. أليس لي قلب؟
فظلت لويزا ساكتة. - ولعلك تودين أن تسألي ما حال قلبي؟
فبقيت ساكتة لا «نعم» ولا «لا»، ولكنها التفتت عنه وفي بدنها قشعريرة خفيفة وفي قلبها خفوق.
فأجاب على السؤال الذي افترضه: هو شعلة وجد إن طالت حاله هذه تطاير شعاعا.
فقالت لويزا، وقد غصت فيما تقول حتى لم يكد إدورد يسمع: متى صار كذا؟ - على أثر حفلة كمبردج يا لويزا.
ولم يستتم إدورد هذه العبارة حتى رأى موجة اختلاج مرت في قامة لويزا، كأن صاعقة انقضت عليها واخترقت جسمها؛ فانثنت عنه مسرعة وانضمت إلى غيره من المتمشين في أرض البستان، أما إدورد فشعر أن روحه أصبحت في أنفه، وقلبه قد انقطع وسقط من بين جنبيه، وقال في نفسه: «خسرت الحياة. ويلاه!» وبقي بين الزهور يوهم أنه متلاه بها، ولكنه لم يعد ليعي ما حوله، ولا يبصر ما أمامه إذ اسودت الدنيا في عينيه، وجعل يؤنب نفسه ويلوم ذاته كأنه أتى أنكر المنكرات، ولو كان في يده آلة للهلاك لانتحر في الحال، وبعد هنيهة رأى اللورد روبرت مقبلا عليه، فخطر له أن لويزا أخبرت أخاها بما قاله لها، وأنه قادم إليه لكي يوبخه على ما كان منه معها، فصمم إدورد أن يخنق نفسه لأول كلمة يسمعها من صديقه روبرت بهذا الشأن، ولكن روبرت ابتدره من بعيد قائلا: لا تؤاخذني يا حبيبي إدورد على قلة انتباهي إليك وانشغالي بغيرك من الأصحاب، فإنما أغضيت عنك لأنك صديق بل أخ لا تعتب كسواك؛ ولأني رأيت لويزا تماشيك. أين هي؟
فكان قلب إدورد ينتفض عند كل كلمة يقولها روبرت متوقعا أن يكون هذا الكلام مقدمة تهكم يليها التوبيخ، ولكن هدأ روعه قليلا عند سؤال روبرت: «أين هي؟» فقال: إني لفي غاية الامتنان لك يا عزيزي روبرت ولحضرة الشقيقة الفاضلة مس بنتن؛ فإني رأيت من لطفكم وكرم أخلاقكم أكثر مما رأى الباقون كلهم، بل أشكر لك ثقتك التامة بصدق محبتي التي لا يمكن معها أن أرى منك تقصيرا بإكرامي بل تدعني أشعر أني في بيتي.
ثم تقدما وامتزجا مع الآخرين ولكن لويزا كانت بعيدة، وظل إدورد مضطرب الفؤاد ينتظر عاقبة سيئة لحديثه الأخير مع لويزا، وقد صور الوهم له ذلك جرما عظيما جدا، وقطع كل أمل من رضاها، وصار يتمنى أن ينتهي النهار لكي ينصرف من «مونتمار»؛ لأنه كان يرى ذلك البستان قد أصبح جهنما من غضب لويزا.
وبعد العصاري اجتمع القوم في رحبة من رحبات البستان لتناول الشاي، وكان إدورد يخاف أن ينظر إلى لويزا؛ فلم يجل نظره ليعلم من أي جهة تأتي ، فما درى إلا وهي وراءه تقول لإحدى رفيقاتها: «نقعد هنا.» ثم قعدتا إلى جانبه، فرمقها فرآها تبسم وتبش كأنه لم يكن شيء مما كان، أو كأن سحابة خجل لا غضب مرت على محياها، وانقشعت بذلك النفور القصير، فهدأ روعه تماما وعاد أمله أقوى وأمتن. ثم عاد إلى محادثتها بمواضيع مختلفة بأكثر طلاقة من السابق كأنهما صديقان تعارفا منذ الحداثة، ولم يبق عند إدورد شك بأن لويزا تحبه كما يحبها.
نامعلوم صفحہ