حقائق الاسلام واباطيل خصومه
حقائق الإسلام وأباطيل خصومه
اصناف
فمذهب القوة في رأي نيتشه يناقض جميع الأديان الإلهية، ولعله يوافق دينا يعتقد أتباعه أنه دين إله واحد يختارونه ويختارهم فيستبقيهم ويمحق غيرهم من العالمين ... ولكنه لا يوافق الأديان التي تدعو إلى إله واحد للأقوياء والضعفاء. وقد يكون الأخذ بمذهب القوة في رأي نيتشه هدما لهذه الأديان من قواعدها واقتلاعا لها من جذورها؛ إذ لا قيمة للدين ما لم ينشئ أمام القوة الطاغية قوة تكبحها وتهذبها، وهي قوة الضمير. ولا رسالة للدين بين البشر إن لم تكن رسالته أن يربي فيهم وازعا للقوة البدنية وقوة المطامع والشهوات. وقد تعلم الناس دهرا طويلا أن حماية المريض غير حماية المرض، وأن العناية بالمرضى تئول على الدوام إلى عناية بالصحة، يستفيد منها الأصحاء كما يستفيد منها المصابون، وليس بالعسير عليهم أن يتعلموا كذلك أن حماية الضعيف غير حماية الضعف، وأن العناية بالضعفاء تئول إلى عناية شاملة يستفيد منها الأقوياء والضعفاء، أو تكون فائدة الأقوياء منها مقدمة على فائدة الضعفاء.
وتفسير «هوبز» للقوة لا يقرب مذهب القوة كثيرا إلى حقيقة الأخلاق الإسلامية؛ لأن الإسلام لا يحمد من الأخلاق أنها حيلة ملتوية أو مستقيمة إلى طلب القوة، بل يحمد منها في كل شأن من شئون الإنسان أنها وسيلة إلى طلب الكمال، ويحبب إلى الإنسان أحيانا أن يؤثر الهزيمة مع الكمال على الظفر مع القوة، إذا كان الظفر وسيلة من وسائل القوة الباغية التي لا تتورع عن النجاح بكل سلاح.
ومذهب الفلسفة اليونانية ينتهي بنا إلى مقياس للأخلاق شبيه بمقاييس الهندسة والحساب، بعيد عن تقدير العوامل النفسية والقيم الروحية في الأخلاق العليا على التخصيص. وقد تصدق هذه الفلسفة إذا كان المطلوب من الإنسان أن يختار بين رذيلتين محققتين؛ فإنه في هذه الحالة يحسن الاختيار بالتوسط بين طرفين متقابلين كلاهما مذموم ومتروك، إلا أننا لا نقول من أجل ذلك إن الكرم نقص في رذيلة البخل، أو نقص في رذيلة السرف، ولا نقول من أجل ذلك إن الكرم إذا زاد أصبح سرفا، وإن السرف إذا نقص أصبح كرما، بل تكون الزيادة في الكرم كرما كبيرا، والنقص في السرف سرفا قليلا، ولا يكون الكرم أبدا درجة من درجات السرف، ولا البخل أبدا درجة من درجات الكرم، بل هي أخلاق متباينة في الباعث متباينة في القيمة، يتقارب الطرفان فيها أحدهما من الآخر، ولا يتقارب الطرف من الوسط كما يظهر من قياس الهندسة أو قياس الحساب.
وقد رأينا في مباحث العلل النفسية التي كشفها العلم الحديث أن الشذوذ يقرب بين المسرفين والبخلاء في أعراض متشابهة، وأن العلة الكامنة في التركيب قد تظهر في الأسرة الواحدة بخلا في أحد الأخوين، وسرفا في الأخ الآخر، أو تظهر في أحدهما هوسا بالإقدام والاقتحام، وتظهر في أخيه هوسا بالحذر والإحجام؛ فلا إفراط هنا ولا تفريط، في «كمية» واحدة تقاس بمقياس الهندسة والحساب، ولكنها خلائق متباينة تختلف بالباعث لها، وتختلف بقيمتها في معايير الأخلاق.
ولو صح مذهب الفلسفة اليونانية أو مذهب أرسطو على الأصح لما جاز للإنسان أن يطلب المزيد من فضيلة الكرم - مثلا - لأنه ينتقل على هذا الرأي إلى رذيلة السرف والتبذير. إلا أن زيادة الكرم لا تكون إلا زيادة في فضيلة مشكورة، ولا بد من التفرقة بين زيادة الكرم وزيادة العطاء؛ فإنهما في الواقع أمران مختلفان، وقد قيل: لا خير في السرف ولا سرف في الخير. وفي القول الثاني توضيح لازم للقول الأول؛ لأن زيادة الخير إلى أقصى حدوده واجبة لا تخرج به عن كونه خيرا محمودا يزداد حمده مع ازدياده، ولا يحسب من السرف على وجه من الوجوه.
وإنما يلتبس الأمر على أصحاب مدرسة التوسط في جميع الأمور؛ لأنهم ينظرون في تقدير الكرم إلى المال المبذول وإلى مصلحة الباذل في حساب المال، ولا التباس في الأمر إذا نظروا إلى الباعث والموجب والمصلحة في عمومها ولو ناقضت مصلحة الباذل في بعض الأحيان.
فمن كانت طاقته أن ينفق ألف دينار ولا يتقاضاه الواجب أو تتقاضاه مصلحته أن ينفق ألفين فهو مسرف ما في ذلك خلاف؛ لأنه يفعل شيئا يضره ولا توجبه عليه مصلحة أكبر من مصلحته. أما إذا كان باعث الإنفاق شيئا غير مصلحته وغير هواه وكان حبس المال في يديه ضارا وخيم العاقبة على الناس وعليه في النهاية، فالكرم أن يزداد في الإنفاق على حسب المصلحة العظمى، وعلى قدر التضحية وإنكار الذات يكون حظ البذل من الفضيلة المحمودة أو حظه من الخير الذي لا سرف فيه.
وتصعب المقارنة بين التطرف والتوسط حين تكون المسألة مسألة درجات ولا تكون هناك مقادير تعد بالأرقام، فإذا ترخصنا فقلنا إن الكريم هو الذي يبذل ألف دينار، وإن المسرف هو الذي يبذل ألفين أو ثلاثة آلاف، والبخيل هو الذي يبذل مائة أو لا يبذل شيئا على الإطلاق؛ فمن هو الشجاع ومن هو المتهور ومن هو الجبان؟
ليست هنا مقادير تعد بالأرقام، فإذا عرفنا أن الجبان هو الذي يحجم عن الخطر فمن هو الشجاع؟ ومن هو المتهور؟ إن التهور ليكونن أفضل من الشجاعة إذا قلنا إن الشجاع قليل الإقدام على الخطر وإن المتهور كثير الإقدام عليه، أو قلنا إن درجة الخطر الذي يقدم عليه المتهور أعظم من درجة الخطر الذي يقدم عليه الشجاع، ولكننا حين نقول إن الشجاع هو الذي يقدم على الخطر حيث يجب الإقدام عليه نرجع بالفضيلة والرذيلة إلى مقياس الواجب وتقديره، وتصبح المسألة هنا مسألة قدرة على فهم الواجب والعمل به، وليست مسألة أعداد أو أبعاد ... فالمتهور والجبان كلاهما عاجز عن فهم الواجب والعمل به، والشجاع هو القادر على الفهم والعمل، ولا يستقيم في التعبير إذن أن نقول إن المتهور أكثر شجاعة من الشجاع، وإن الجبان أقل شجاعة منه؛ لأنهما معا خلو من الشجاعة الواجبة بغير إفراط أو تفريط.
ولن يشذ الإنسان عن الاعتدال في الطبع إذا هو آثر أن يذهب في كل فضيلة إلى نهايتها القصوى، فماذا يعاب في جمال الوجوه - مثلا - إذا انتهى إلى غاية لا غاية بعدها في معهود الأبصار؟ وماذا يعاب في جمال الأخلاق إذا انتهى إلى مثل تلك الغاية في معهود البصائر؟ إن كلمة من كلمات اللغة العربية العامرة بمدلولاتها النفسية والفكرية لتهدينا إلى قسطاس الحمد في كل حسنة مأثورة، فكلمة «ناهيك» - حين نقول: ناهيك من رجل أو ناهيك من عمل أو ناهيك من خلق - هي قسطاس الثناء فيما تنشده النفوس الإنسانية من كل فضل منشود؛ فهو الفضل الذي ينتهي بنا إلى النهاية فلا نتطلع بعده إلى مزيد.
نامعلوم صفحہ